المصري اليوم - القاهرة «يا رب.. لم لا أعمل في مواقع تنشر أخبارا تافهة بدلا من التعامل يوميا مع قصص القتلى والكوارث؟». توجه المترجمة التي تعمل في وكالة أنباء سؤالها إلى الله شخصيا على سبيل السخرية لا القناعة من مواقع تقدم موضوعات ك10 طرق لصناعة كذا، غالبا ما يضرب مثال 10 طرق لإزالة شعر الإبط كسخرية عنيفة مما يظنونه «الصحافة الأقل شأنا» رغم الاحتمالية الكبيرة لوجود إناث يهتممن بعشر طرق مريحة لذلك. يشترك في تلك النغمة الجميع: الصحفية التي لم تمارس من الصحافة إلا الترجمة، الصحفيون العاملون بأقسام لها وزن أثقل كالتحقيقات، الاقتصاد، يلتحق بهم ما يمكن تسميتهم ب«نخبة» الإنترنت من غير العاملين بمجال الميديا. يتم إلحاق المصطلح الآتي: «هوس الترافيك» Click bait Junk، يتحول الأمر إلى برستيج يتبعه الآخرون، يكفي أن تُلحق تعليق: هوس الترافيك بأي موضوع يناقش أمورا لم تعتدها لتشعر أنك في الجانب الصحيح والآمن من الإنترنت. في النصف الآخر من العالم، في أمريكا، الهند.. يشتعل نفس الخلاف، الصحفيون يظنون أنهم أعلى شأنا من الصحفيين العاملين بقطاع الترفيه أو التسلية «Entertainment Media» الحقيقة: حتى الأخبار، التحقيقات، الموضوعات التي يصنفها الصحفيون كموضوعات ثقيلة وأعلى شأنا لا غنى لها في عصر قد يستبدل فيه السمارت فون المواقع الإخبارية عن منطق عرضها بشكل جذاب وممتع بل «ترفيهي». الحقيقة: الفصل عنصري، بينما لن تكتمل الصحافة إلا بكليهما. كيف؟ دعنا نواصل. **** لكنك ستستمع سرا بما تدعي كراهيته. ستضغط على خبر النميمة التافه في الظلام، ثم تلعن الموقع في ضوء السوشيال ميديا. القارئ والموقع يخسران، بتحول العلاقة بينهما إلى علاقة ذنب متبادل، بنفس إحساس متصفح مواقع البورن- الأعلى على ترتيب أليكسا من أغلب المواقع الصحفية في مصر- الضغط على الرابط لن يمنعه من احتقارها. صحافة تنتج وتقرأ تحت وطأة الإحساس بالذنب من محررها الصغير وقارئها. المحرر ينتج ما تطلبه إدارة التحرير في مجتمع كان قادرا على استقبالها لفترة قصيرة لنسيان ذنب الدم، ثم مع الوقت يظن المحرر الصغير أنه على الطريق الصحيح، القارئ يبتلع الهواء المسمم بالتريفيا، ويجرف عقول مئات من الصحفيين الشبان. ستسميها ساخرا «صحافة الترافيك».. لكن الأكثر سخرية أنها لا تحقق «ترافيك». أغلب تلك المواقع لا تدرك أنها تصنع في الأساس صحافة ترفيه بل آلة صخب، لو أدركت لصنعتها بشكل جيد. دخلت المواقع الإخبارية العاملة في مصر التي كانت مجهولة في اللعبة - أغلبها محسوب على جهات سيادية وخليجية- بجهل كامل لكيفية صناعة صحافة ترفيه، وبوعي كامل من مالكيها ورؤساء تحريرها أنهم آلة لإنتاج أكبر كم ممكن من الصخب، فشار لا يرغب في أن تفكر في الحقيقة: كان هناك دم، مازال هناك دم، البلد يعود لقبضة ملاكه القدامى بعنف. لذا تلعن المترجمة في وكالة الأنباء هذا النوع من الصحافة الذي قد تقرؤه وتشاركه على صفحتها على الفيس بوك إذا كان من بيزنس إنسايدر وباظ فيد بل والجارديان بأريحية. ما تفعله تحديدا بسبها لمواقع تدعي أنها تصنع صحافة ترفيه هو نقد غير متقن على عدم إجادة تلك المواقع للصنعة، وربما لإحساس شامل يجمعنا بالسبب الخفي وراء انتشار هذا النوع من الصحافة لا لأهمية وجوده ولكن كي لا ترى القذى أبدا في عين السلطة، حيلة بالية مستدعاة من دعاية الستينيات، لكن بتقنيات رقمية. ***** يعلمنا تاريخ الإنسانية شيئا واحدا: أن الشر كان أكبر دوافع الإنسانية للتقدم. صحافة الترفيه في مصر نبتت من منبت شر. كما تعلمنا أن الرأسمالية ثورية رغما عنها. فقد دفعت الإنسان إلى الأمام رغم ما يكمن بها من شر محافظ ورجعي. الإعلام الذي ارتبط بدعم ثقافة الاستهلاك وبمحركيه كمبشرين وأنبياء لدين الرأسمالية الذي حل محل المسيحية بعد وفاة الأديان التقليدية في الغرب هو من منحنا إمكانية انطلاق الصحافة بأدوات جديدة، بعد انسداد أفق الصحافة الورقية. الاستهلاك وإعلام التيك أواي صنوان. تحديدا ما قد يفتحه الولوج إلى صحافة الترفيه في مصر، خير. الشعلة الصحيحة في اليد الخطأ الآن. ستجبر الجميع على أن يكون جذابا أو يقتل. التطوير أو الفناء. هي ما جعلت على سبيل المثال الإنفوجراف كلمة عادية لا تجربة طليعية. وسيحدث الأمر نفسه مع كل الأدوات التفاعلية التي يتيحها الإنترنت. أهم من مصطلح صحافة الترفيه، هو مصطلح الصحافة الرقمية Digital Journalism. وهو مصطلح المسؤول عن انتشاره في مصر مواقع صحافة الترفيه. فهي المواقع التي أدركت مبكرا أن نسخة المقال المكتوبة للورقي لا تصلح لشبكة الإنترنت، الذي يوفر بدوره وسائل وأدوات للتعبير أهم من النص المكتوب، كالصورة والفيديو والخرائط التفاعلية. أين يكمن شرها؟ إنها صحافة تتعمد أن تختبئ من النقطة المهمة للحدث وتحوم حول أطرافه، تحتفي بالتافه، لتلهينا - عن عمد- عن النقطة الرئيسية التي لا يستطيع الإعلام في مصر تقديمها على عكس الإعلام الغربي المنقولة عنه أفكار عشر أشياء لتصبح كذا؟ أو ماذا تعرف عن؟. اعتمد بعض نماذجها على سمعة النجاح الساحق لموقع باظ فيد، هافنجتون بوست، بيزنس إنسايدر، وهي مواقع استطاعت أن تضبط إيقاع استخدام الصحافة الرقمية، لتقديم محتوى ترفيهي قادر على استخدام أدوات الإنترنت، وصناعة Viral Content محتوى قادر على الانتشار عبر الشبكات الاجتماعية، محتوى لا يتعلق فقط بهوس الترافيك بل بال«Share» وتسويق نفسه بنفسه من خلال تبني القراء له على صفحاتهم على المواقع الاجتماعية. لم يدرك من اتخذوا أسباب النجاح السطحية أن باظ فيد نفسها تتجه لإنتاج تحقيقات استقصائية ومطولة وأخبار جادة مكتوبة بجاذبية، وأن تتحول من قاتل للصحافة إلى مستقبل للصحافة وأنها كانت تعرف من البداية كيف تستهدف قراءها وتقسمهم إلى فئات، كانت تصنع من الهراء محتوى جاذبا ومسليا بحرفة لم يؤهل لها أغلب الصحفيين في مصر. لا أحد يريد سوى القشرة؟ لكن حتى القشرة لا نملك كفاءة إنتاجها. صحيفة كالجارديان بكل ثقلها استطاعت أن تلحق بثورة الصحافة الرقمية، استخدام أدوات المالتي ميديا، لتحقيق المعادلة وإدارك أنها «غيرت شكل الصحافة ومنفتحة إلى أبعد الحدود ووسيلة لتقوية العلاقة بين الصحفيين والقراء». الأزمة ليست في صحافة الترفيه، الأزمة أنها صدرت بلا تأهيل أو معايير لأخلاقيات صحافة الترفيه وجعلت منطقها: كل شيء مباح. بلا إدراك من مروجيها بأي مسؤولية سوى ملء مساحة: كله تمام. عبر ملاحقة فيفي عبده في حمى خمسة إمواه على إنستجرام- المهمة صحفيا- قبل أن تؤدي الدور الأول للصحافة: أن تخبرنا الحقيقة. المقصود تماما أن لا نفكر في الحقيقة. *** الصحافة الرقمية، التي استخدمتها مواقع الترفيه أولا في غياب «مسؤولية» دور الصحافة هي ابنة الحريات، الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ودعم مفاهيم الإخاء والمساواة، هي شعلة المدونين الأولى الذين استطاعوا نقل أحداث وجرائم للدولة فور حدوثها عبر استخدام تقنياتها. صحافة أربكت دولة مبارك. ثم عادت الدولة للاستحواذ على تلك السلعة مرة أخرى عبر مندوبيها في المواقع الخاصة. رغم أنها لن تنجح أبدا في ظل وجود خطوط حمراء، راجع الفارق بين ما قدمه باسم يوسف وكل محاولات استنساخه المدجنة والفاشلة. صحافة الترفيه ثورية رغما عنها. كون أن الشعلة الصحيحة في اليد الخطأ لا يعني أبدا أن عليك احتقار المفهوم. فشل صحافة الترفيه في مصر في جلب جمهور يحمل لها الولاء، سيرغم آخرين معنيين بالمكسب الاقتصادي لا تعليمات الجهة السيادية على صناعتها بالشكل الصحيح. يمكنك دائما أن تقدم 10 معلومات مثيرة عن غاندي..السادسة سوف تدهشك «إن كان محررها قد تعلم أن يرهق نفسه بالبحث عن 10 معلومات مثيرة وجديدة فعلا لا أن غاندي قاوم الاحتلال الإنجليزي، وأن يعلمه أحدهم كيف يكتب ذلك بطريقة جذابة. سيظل الناس في حاجة إلى معرفة أخبار فيفي عبده، وأن تقدم إليهم قوائم بأفضل الأفلام أو 10 طرق لتصبح لاعبا مهما في بيس 2013 - وهو اسم موضوع في الجارديان- لا يمكنك أبدا أن تتعالى على ما يرغب القارئ في معرفته، تقييمك لاحتياجاته لم يعد سلطويا كما كان الأمر من قبل. القارئ لا يحركه كتالوجك عن الثقافة أو المعرفة. القارئ سيهجرك في حالتين: إن أصررت على أن الصحافة المهمة تعني الجفاف ولا تحتاج إلا إلى مهارات الكتابة للمطبوعة أو إذا أصررت على أن صحافة الترفيه تعني التفاهة لا الخفة وتجاهلت غرض الصحافة الأول: أن تخبر قارئك ما الذي يحدث؟ لا أن تلهيه عما يحدث. على الصحافة «المهمة» أن تتعلم كيف تكون مسلية، وألا تحتقر صحافة الترفيه التي تعمل مثلها مثل صحافتنا اليومية في ظرف عام من البؤس والجهل وفساد النوايا واليد الخطأ.