قرار توقف القطاع الورقي في صحيفة أو مجلة يتأثر بمجموعة من العوامل المختلطة: عوامل مالية ومهنية ونفسية عاطفية وعادات ثقافية.. ومهما يكن من أمر فمن الواضح أن التوقف سيتم عاجلاً أو آجلاً.. لكن السؤال عن توقيت التوقف المناسب: الآن أم مستقبلاً؟ ما يثير هذا السؤال هو قرار مجلة نيوزويك (إحدى كبرى المجلات الأمريكية) بتوقف نسختها المطبوعة بداية العام القادم وتحويلها بالكامل إلى صحافة رقمية. ففي أغلب دول العالم ومنه السعودية، نجد أن المجلات العامة غير المتخصصة تتكبد تكاليف باهظة على الطباعة والتوزيع، وتلك لا لزوم لها لأن قلة يشترونها فهم يرونها أمامهم في الإنترنت. لذا ترى الغالبية أن على المجلات الورقية العامة أن تتوقف، بينما ثمة أقلية تعارض ذلك لأنه يصعب الفصل بين القطاع الورقي والإنترنتي في المؤسسات الإعلامية العريقة.. قبل أربع سنوات، في لقاء عام للصحفيين بلندن، خطب المدير التنفيذي لصحيفة التايمز البريطانية “بل كيلر" قائلاً: “في أماكن تجمع بين المحررين والناشرين فإن المزاج هذه الأيام هو جنائزي". وعلقت صحيفة الجاردين في ترويستها: “لم نمت بعد!". “ربما لم تمت بعد..لكن اتجاه المبيعات والإعلانات وصعود الإنترنت.. تخلق إحساساً واضحاً بالهلاك". كما كتب المؤرخ الإعلامي إريك ألترمان. الذي أوضح “أن الصحف تخسر الإعلانات والقراء وقيمتها في السوق، وأهم من ذلك تخسر معنى رسالتها..". عادات القراءة تغيّرت.. فمتابعة الصحافة عبر الإنترنت من خلال اللوائح المحمولة والهواتف الذكية صارت متاحة في أي مكان وفي أي وقت على خلاف ما كان عليه النمط مع الصحافة الورقية. كل صفحة بالإنترنت متاحة مثل كافة الصفحات.. صار القارئ يختار مواضيع محددة متجولاً بين المواقع، ولم تعد كتلة الموضوعات المتنوعة للحزمة الورقية للمجلة في موقعها الإنترنتي ذات معنى للقارئ الذي لم يعد محصوراً بأوراق المجلة التي بين يديه. ببساطة لم يعد هناك إطار له تعريف اسمه “مجلة" في الإنترنت.. إذن، ما الذي يجعل موقعاً في الإنترنت لصحيفة ورقية مشهورة يتميز عن موقع جديد في الإنترنت؟ ربما الاسم العريق ومصداقيته.. ومقدرة المؤسسة العريقة على السبق والإثارة والتميز وثراء المعلومات.. ربما بحكم العادة.. ربما جاذبية الصور المثيرة في بعض المجلات! لكن موقع مجلة ورقية أسبوعية مهما كانت عراقتها سيظل بطيء التجدد في كثير من مواضيعه الثابتة لمدة أسبوع. ومن هنا ذكر المؤرخ الإعلامي ألترمان أن الصحف أنشأت مواقع في الإنترنت للاستفادة من إعلانات الإنترنت، لكن الحصيلة لم تكن كافية لتعويض الخسارة في الإيرادات من القطاع الورقي (المبيعات والإعلانات). يتساءل البروفيسور ألن جاكوبس إذا كانت الطباعة هي عبارة عن خسارة مالية كما نسمع من صحيفة إلى أخرى فلماذا لا تتوقف الآن لا سيما أنها ستفعلها في كل الأحوال عاجلاً أو آجلاً؟ ما هي العوامل التي تعيق ذلك؟ العادات والتقاليد؟ مدراء المؤسسات الإعلامية الذي يعرفون العالم الطباعي لمدة طويلة ولا يستطيعون تخيل الحياة بدونها؟ ثمة شعور شبه واعٍ أن الورق وحبر الطباعة هي “حقيقية"، بينما الأخرى ليست كذلك، فإذا كان لك موقع في الإنترنت فقد ينظر إليه وكأنه مجرد مدونة تافهة، بلا منتَج قابل للبيع ويمكنه الاستمرار والشعور به بشكل ملموس. هناك كثيرون يوافقون على ذلك.. مثل رئيس تحرير سابق لإحدى المجلات الورقية (أندرو سولفان)، يرى أن توقف نيوزويك كان صائباً، وكان أفضل لو تم قبل سنتين، فلماذا الانتظار؟ من الصعب أن تتقبل العقول القديمة هذه المسألة.. وأحياناً لا يستطيعون التكيف لأنها مؤسسات ضخمة يصعب عليها التحرك بسرعة بينما المصادر والمعلومات تتدفق بسرعة هائلة.. كما أن لا أحد يريد تغييراً يؤدي إلى فصل كثير من الموظفين، فنحن بشر.. وليس من الممتع أن ترى مؤسسات إعلامية ضخمة تنهار هكذا بسهولة.. إنما هناك من يعارض توقف القطاع الورقي في المؤسسات الإعلامية. يقول الإعلامي نيكولاس كار: هناك فكرة أساسية خاطئة. أولاً ليس القطاع الطباعي هو الذي يخسر، بل إن العملية برمتها تخسر المال حيث التكاليف أعلى من الإيرادات. ثانياً، من منظور إنتاجي، لا يمكن الفصل بين الجانب الطباعي والجانب الإنترنتي. يمكنك لدرجة معقولة فصل الإيرادات بينهما (الإعلانات والاشتراكات)، لكن لا يمكنك فصل التكاليف. التكلفة الأساسية في عمل الصحافة ليست تكاليف الطباعة وتوزيع النسخ، وإنما تكلفة إنتاج المحتوى، أي تكلفة العمل الذي يذهب إلى الموظفين والصحفيين والمحررين والمصورين، وما إلى ذلك، بالإضافة إلى تكلفة شراء المحتوى من الموردين الخارجيين، فهذه التكلفة مشتركة إلى حد كبير بين الجانبين الطباعي والإنترنتي. لذا إذا رغبت في إيقاف النسخة المطبوعة، فإنك في الواقع تنهي مصدراً أساسياً للإيرادات (الإعلانات والاشتراكات)، ولكنك لا تخفض من التكاليف بما فيه الكفاية. أي تضحي بالإيرادات أكثر من التكاليف، وسيتوجه وضعك المالي من سيء إلى أسوأ. نعم قد يسبب الجانب الطباعي خسائر لكنك لم تحسب الإيرادات التي يجلبها الطباعي إلى الإنترنتي. لذا إذا أوقفت الطباعة عليك العمل على أحد اثنين: (الأول) معرفة وسيلة لكسب المال عبر الإنترنت أكثر بكثير مما عليه الوضع أو (الثاني) فصل مجموعة كبيرة من الموظفين. وحيث لا أحد يعرف حتى الآن كيفية القيام بالأول، فإن الخيار الثاني هو المتاح الوحيد. هذا يعني إنهاء غرفة الأخبار للصحيفة، ومن ثم مواجهة معضلة جديدة: لقد دمرت تماماً قدرتك على إنتاج بضاعة صحفية مميزة على الجانب الانترنتي للصحيفة. المناقشات حول التحول من الطباعة إلى الانترنت بالكامل في عمل الصحافة الإخبارية تميل إلى التركيز على جانب الطلب (أنماط جديدة من الاستهلاك) لأن الطلب يركز على وسائل الترفيه. لكن أكثر الصحف تكمن مشكلتها في جانب العرض (الأنماط القديمة من الإنتاج). حتى يتم حل مشكلة العرض على المستويين الكلي والجزئي فإن صناعة الصحافة ستستمر في حالة صراع. ووقف المطابع، في هذه المرحلة، سوف يفاقم المشكلة فقط. في السنوات القليلة القادمة سيكون وضع الصحافة الورقية مع الإنترنت مثل وضع عربات الخيل مع السيارات.. نعم، ربما تبقى بعض المجلات الورقية كما بقيت بعض عربات الخيل، ولكن لأغراض أخرى غير هدفها الرئيسي..