مال الاقتصادية السعودية ما أن ترتفع قيمة الدولار الأميركي حتى تبدأ حفلات التنظير التي تفسر وتشرح أسباب قوته وترمي جميع أنواع التحليلات بربط حركته بأسعار النفط والذهب والمؤشرات الاقتصادية وغيرها.لا خلاف على أن قيمة الدولار حاليا تعتبر الأعلى منذ عدة سنوات سواء قسناه بالمؤشر الخاص به أو بقياسه مباشرة مقابل بعض العملات الرئيسية، لكن هناك فرقا كبيرا بين اعتباره استرد شيئا من قيمته وبين اعتباره قويا بالمطلق. تحتسب قيمة مؤشر الدولار بقياس أداءه مقابل اليورو و الجنيه الاسترليني والدولار الكندي والفرنك السويسري و الين الياباني والكرونا السويدي. وزن اليورو في سلة العملات هو 57% و النسبة الباقية هي للعملات الاخرى مجتمعة، ويمكن تداول المؤشر من خلال العقود الاجلة على البورصات العالمية. عند نهاية الحرب العالمية الثانية اتفقت الولاياتالمتحدة وحلافؤها على جعل الذهب أساسا لتقييم العملات في كل دولة عبر اتفاقية بريتون وودز. وتم في نفس الاجتماع إنشاء صندوق النقد الدولي ليقوم بتمويل العجوزات في ميزان التجارة. استمر العمل بالاتفاقية حتى بداية السبعينات حين أعلن الرئيس الأميركي نيكسون نهايتها من طرف واحد وبالتالي تم تعويم العملات وأصبحت البنوك المركزية حرة في إصدار الحجم الذي تراه مناسبا من عملتها. بعد ذلك بفترة وجيزة بدأ العمل بمؤشر الدولار وكانت أول قيمة أعطيت له هي 100 نقطة فيما كانت أسعار الذهب في تلك الأيام تحت ال 50 دولار للأونصة و سعر النفط حوالي 3 دولارات ارتفع الى 12 دولار في ذروة أزمة قطع البترول في حرب 1973. على علاته، يعتبر الدولار الأميركي الملاذ الآمن كعملة من قبل المستثمرين في الأزمات. لذلك يتجهون إلى حيازة المزيد منه على حساب العملات الاخرى مما يؤدي الى ارتفاعه وهبوط العملات. بلغ مؤشر الدولار أعلى قيمة له و هي 164 نقطة في عام 1985 وأدنى مستوياته 70 نقطة عام 2008 قبل استفحال الأزمة العالمية الأخيرة. أي أنه في مستوياته الحالية يساوي حوالي نصف قيمته القصوى و 20% أعلى من أدنى مستوياته. بالعودة إلى إلغاء الذهب كوحدة تقييم للعملات، فإن ما دفع الولاياتالمتحدة إلى إيقاف ذلك هو عدم قدرتها على اتخاذ قرارات نقدية منفردة تخدم مصالحها، مما أدى إلى وجود حدود لما يمكن أن يقوم به الاحتياطي الفدرالي. وجدير بالذكر هنا أن عددا من كبار الاقتصاديين على رأسهم الرئيس السابق للبنك الدولي ألمحوا خلال الأزمة الأخيرة إلى وجوب العودة إلى نظام مشابه لبريتون وودز كقاعدة يمكن بناء اقتصاد عالمي جديد عليها. طبعا، لم تلق تلك الدعوات أي اذان صاغية. في خلال الأزمة العالمية، ارتفع مؤشر الدولار الى مستويات 88 قبل أن يعود الى الانخفاض تدريجيا فبلغ مستوى 73 الذي باشر منه رحلة صعوده الأخيرة فامتلأت وسائل الاعلام بأخبار قوة الدولار وتأثيره على الاقتصاد الى ما هنالك من نظريات وتحذيرات. في ذروة ارتفاع الدولار في الفترة القريبة السابقة، ألمحت جانيت يالين رئيسة الاحتياطي الفدرالي الى قلق مؤسستها من قوة الدولار وضعف النمو الاقتصادي حول العالم على تعافي الاقتصاد الأميركي. مجرد تلميح بالقلق قلب الأسواق والنظرة إلى الدولار. إن العوامل الاقتصادية، إيجابية كانت أم سلبية، لا يتغير في يوم وليلة. معدلات البطالة ومستوى الإنفاق ومؤشرات البناء والمنازل بالإضافة إلى المبالغ التي تضخها البنوك المركزية، أو التي تتوقف عن ضخها، لم يصبها أي تغيير غير متوقع. ما الذي إذن يدفع الدولار صعودا و هبوطا؟ ولدحض العلاقة المباشرة قصيرة الأجل بين أسعار النفط والذهب، فإن المؤشر كما ذكرنا بلغ مستوياته القياسية عندما كانت أسعار النفط والذهب مرتفعة نسبيا في وقتها، وعلى كل الأحوال كانت تشكل نسبة بسيطة من أسعارها الحالية. إذا دققنا في تعريف مؤشر الدولار أعلاه فإننا يجب أن نركز على كونه يُقيَم بالعملات الأخرى. وبالتالي، يعكس قوة وقدرة بلد ما على إدارة الميزان التجاري مع بلد آخر لمصلحته. لذلك، فإن سعر صرف العملة هو وسيلة اقتصادية وليس هدفا بحد ذاته. وكون الدول الرئيسية دون استثناء تواجه مصاعب اقتصادية، فإن كل منها تحاول إضعاف أو تقوية عملتها للأسباب التجارية المذكورة. وقيام جميع الدول بإجراءات نقدية تؤثر على سعر صرف العملة يعني الإخلال بميزان القوى في الميزان التجاري مع الدولة المقابلة. وهو ما اصطلح على تسميته حرب العملات، حيث أن إجراءات دولة ما تقابلها إجراءات الدولة المقابلة. على سبيل المثال، اذا نظرنا إلى الدولار مقابل الين الياباني وارتفاعه إلى مستويات قياسية حاليا نسبة للسنوات الأخيرة، فإننا نلاحظ أن ضعف الين الياباني كان أشد تأثيرا من قوة الدولار الأميركي و هذا واضح بالنظر إلى سعر صرف الين الياباني مقابل عملات أخرى.وهنا نسأل، هل يكفي تصريح من يالين أو من مسؤول ياباني لتغيير سعر الصرف؟ من الممكن أن تؤثر التصريحات لمدة محدودة وقصيرة، إلا أن ما يبقى في النهاية هو الوضع الاقتصادي و مبدأ العرض والطلب. لذلك، في رأيي أن ما يسمى بحرب العملات مجرد تسمية إعلامية ولا تعني شيئا أمام الإجراءات الاقتصادية والتنموية. من جهة أخرى، فإن العملات التي يقيم الدولار مقابلها في المؤشر تم اختيارها بناء لحجم تبادلها التجاري مع الولاياتالمتحدة تاريخيا. وآخر تعديل للمؤشر كان عند إضافة اليورو بدلا من العملات المنفردة السابقة. وهنا أيضا نسأل، كيف سيكون تقييم مؤشر الدولار لو تم استبدال بعض العملات في السلة المستخدمة للدول التي قل حجم تبادلها التجاري بعملات دول لديها تبادلات تجارية عالية جدا مع الولاياتالمتحدة مثل الصين والمكسيك والبرازيل؟ لو جمعنا العوامل المذكورة، التاريخية والنقدية والتقنية، فإنني أعتقد أن الدولار حاليا لا يعتبر في مستوى قوي جدا كما يُنظر إليه، ويبقى أمامه المزيد من الارتفاع إلى أن تتغير عوامل اقتصادية مؤثرة، وهي كما ذكرنا، لا تتغير في يوم وليلة. كما أنه ليس في مستوى يوحي باستخدامه كملاذ آمن حاليا. وبالتالي، سننتظر لفترة مقبلة قبل الدخول في أزمة عالمية جديدة. *الرئيس التنفيذي لمجموعة أمانة كابيتال – دبي