البترول سلعة من السلع التي تُباع وتُشترى وفقاً للمعروض والمطلوب منها آنياً والكميات المتوقع توافرها والمتوقع المطلوب منها في المستقبل، مهما أحاط بأسعار هذه السلعة من ضبابية مفتعلة في أغلب الأحيان، وحقيقية في أحيان قليلة أخرى. ولو سَعّرت السعودية مبيعات ما تصدره من بترول باليورو أو بالفرنك السويسري أو الجنيه الإسترليني أو الين الياباني أو الريال السعودي أو أي عملة أخرى بدلاً من الدولار، فإن القضية محاسبية بحتة. والعملة المستخدمة ما دامت «صعبة»، أي يمكن تحويلها إلى أي عملة أخرى بسهولة ومن دون قيود حكومية، فإن العملة الصعبة المستخدمة في حد ذاتها لا تقدم ولا تؤخر بالنسبة إلى القيمة الحقيقية لعائدات مبيعات النفط والغاز. غير أن الخلط بين ما يراد قياسه ووحدة القياس ليس أمراً جديداً، كما يعرف جيداً طلاب علم الاقتصاد في وقتنا الحاضر، فحينما اكتشفت إسبانيا والبرتغال التي استعمرت أجزاءً كبيرة من القارة الأميركية الجنوبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر معدنَي الذهب والفضة، خلطت بين «الثروة» بحد ذاتها ووحدة قياسها حينما حولت ما استخرجته من هذين المعدنين إلى عملة، ما أوهمها أنها أَثْرَتْ بقدر ما استطاعت أن «تسك» من كميات ضخمة من النقود. غير أن الناتج الاقتصادي الكلي لم يكبر بالنسبة نفسها التي زادت بها وحدة قياسه. وزاد فقط بقيمة ما يمكن بيعه للآخرين من معدني الذهب والفضة مقابل الحصول على أشياء أخرى ذات قيمة بذاتها، أي أن نسبة النمو الاقتصادي في لغتنا الحالية كانت أقل بمراحل من نسبة زيادة ما نسميه اليوم «كتلة» أو «كمية» النقود أو العملة. والذي حصل هو تتابع ارتفاع المستوى العام للأسعار، أو ما يسميه الاقتصاديون «التضخم» النقدي بما يقارب النسبة نفسها التي تصاعدت بموجبها مستويات السيولة الكلية. فماذا كان يستفيد مالك «عملة» الذهب والفضة الإسباني أو البرتغالي إذا كان يحتاج إلى دفع مبالغ أو كميات أكبر من الذهب والفضة لشراء رغيف من الخبز أو كمية من السمك أو اللحم أو غيره مما كان يستهلكه الإسبان والبرتغاليون وبقية الناس في تلك المناطق في القرن الثامن عشر؟ وهذا لا يختلف، في نهاية المطاف، عن قياس مسافة بين مكانين ب «الميل» أو ب «الكيلومتر»، فإذا تم القياس بالأميال ستبدو المسافة «أقصر»، ولو تم القياس بالكيلومترات فستبدو المسافة «أطول». غير أن المسافة لا تتغير وفقاً لتغير وحدة قياسها. وكذلك مبلغ العائدات من بيع النفط لا تتغير، سواء تم البيع باليورو أو الين أو الدولار أو الريال أو أي عملة «صعبة» أخرى. إن تسعير نفطنا بالريال من ناحية المبدأ لا يغير شيئاً في قيمة عائداتنا من مبيعات ما نصدر من النفط والغاز. أما من ناحية التطبيق، فإنه يخلق مصاعب لا حدود لها من منظور السياسة النقدية ومن زاوية تنفيذ عقود البيع. وليتخيل المتابع الكميات الهائلة من الريالات التي ينبغي إصدارها (أي طبعها) لبيعها مقابل عملات الآخرين الذين فرضنا عليهم شراء نفطنا بالريال، إضافة إلى ما سيتعرض له الريال من غارات المضاربين في أسواق العملات من بنوك وأفراد. إن تسعير البترول بالدولار بدأ منذ اكتشافه بكميات تجارية كبيرة في ولايتي بنسلفانيا وأوكلاهوما الأميركيتين، أواخر القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الوقت والنفط ومشتقاته تسعّر بالدولار حتى قبل أن يصبح الدولار بعيد نهاية الحرب الكونية الثانية عملة الاحتياط الأولى، وعملة التداول التجاري الأولى على المستوى العالمي. وما تتعرض له قيمة الدولار من صعود وهبوط لا يختلف كثيراً عما تتعرض له على المدى الطويل أي عملة دولية تحدد قيمتها نسبة إلى غيرها في الأسواق الحرة، فقيمة عملات صعبة كثيرة، كالجنيه الإسترليني والين الياباني، وبالطبع اليورو وحتى الفرنك السويسري، تتذبذب بين الارتفاع والانخفاض. وقد تذبذبت خلال بضعة عقود ماضية. ولا يجهل متابع أن تذبذب قيمة العملات الصعبة جزء لا يتجزأ من تغيرات الدورات الاقتصادية والتغيرات السياسية. * أكاديمي سعودي