التقرير - السعودية في إحدى منتجعات إفران ذات الطبيعة الجميلة في المغرب كان ذلك الطفل الذي لم يجاوز سن المراهقة بعد، يلعب مع أقرانه في مسبح مليء بالفرنسيين، التفت الطفل إلى سيدة تعترض على دخول أحد الكلاب وشربه من المسبح فأتاها الجواب من رجل فرنسي عظيم الخِلقة "ولكن العرب أيضا يسبحون معنا!" لم يستطع الطفل الذي انغرست فيه بذور الكرامة و جرت في عروقه دماء العروبة السكوت على هذه الإهانة فانتفض يكيل لذلك الرجل المهيب الشتائم ليكتشف فيما بعد أن هذا الرجل من كبار مسؤولي الشرطة في إفران ويودع السجن لعشرة أيام عقابًا له على تطاوله على ذلك الرجل الخسيس .. كانت هذه الحادثة مؤذنة بولادة مناضل سياسي و مثقف حر نادر المثال.. لم يكن هذا الطفل إلا المفكر الكبير وعالم المستقبليات والاستشراف المبرِّز المهدي المنجرة الذي غادرنا إلى دار الخلود في الشهر الفائت. ولد المهدي المنجرة قرب الرباط عام 1933 لعائلة موسرة فوالده كان أحد التجار الوطنيين المهتمين بالإصلاح. ولكن ثراء أسرته لم يعزله عن الناس و عن همومهم ليصبح من بعد من المناضلين عن حقوق الفقراء و المهمشين على هذا الكوكب . حظي المهدي بتعليم جيد وكان حريصا لرسم طريقه الخاص به فرغم أن أقرانه كانوا يُرسلون إلى فرنسا لإكمال دراستهم إلا أنه قرر الذهاب إلى أمريكا ليكمل دراسته الجامعية لتوسيع آفاقه و للاطلاع على ثقافة جديدة ومختلفة عن التيار السائد في المغرب. التحق هناك بجامعة كورنيل الشهيرة ورئس رابطة طلاب العرب خلال دراسته ثم سافر إلى لندن ليقدم أطروحته للدكتوراه عن الجامعة العربية وهو مازال في بداية العقد الثاني من عمره. عاد إلى المغرب ليدرس في جامعاتها ويرفض مناصب وزارية كان عرضها عليه الملك محمد الخامس منها وزارة المالية ليتفرغ للتكوين الثقافي والبحث العلمي الذي أخلص لهما. تولي المهدي المنجرة مناصب دولية كثيرة في الأممالمتحدة كما ترأس جمعيات عالمية وأوربيّة مرموقة. وبعد مضايقات سياسية في بلاده ومنع بعض محاضراته قرر السفر إلى اليابان ليلتحق بالتدريس في كبريات جامعاتها وليمارس نشاطه الأكاديمي والثقافي بحرية فحصل على تكريم من الإمبراطور الياباني على بحث قيم حول النموذج الياباني والعالم الثالث. عاد المهدي المنجرة بعد بضع سنوات قضاها في اليابان و ترك فيها أثرا ملموسًا في مجال تخصصه وبعد إدارته لبعض الجامعات اليابانية، عاد ليواصل نشاطه الثقافي في محاضراته التي تتربص بها المخابرات تلغيها حينا و حينا تنزع الإعلانات المعلقة فيظن الحضور أن المحاضرة قد أُلغيت فيصل المهدي ولا يجد في القاعة إلى بضعة أشخاص !! هكذا قضى حياته في مناكدة مع السلطة حتى أقعده المرض و راح في غيبوبة ثم أسلم الروح لبارئها وقد عاش حياةً حافلة كان فيها دائما متسقًا مع مبادئه وقيمه التي عاش يدعو لها ويناضل عنها.. توفي المهدي المنجرة الشهر الفائت 13/6/2014 فرحمة الله عليه وأخلفنا خيرًا في أمتنا العظيمة. بين عالمية المنجرة ومحلية المثقف الخليجي لا يجد القارئ لإنتاج المهدي المنجرة إلا شخصية مستقيمةً ذات مصداقية عالية فيما تطرحه معتمدة على الأرقام و الدراسات المتخصصة في قرائته للواقع والمستقبل ولسنا نبالغ حين نصف المهدي المنجرة بالمثقف العالمي فقد كانت له إسهامات مهمة في بعض رؤاه الكونية التي شاركه إياها واقتبسها منه بعض مثقفي الغرب. فمصطلح حرب الحضارات الذي انتشر بين مثقفي العالم بعد إصدار ساموئيل هنتجنتون لكتابه صدام الحضارات عام 96 كان المهدي قد سبقه إليه بنحو عقدين من الزمن كمفهوم يوجد في كتاباته ثم كوصف بتسميته لحرب العراق الأولى بأول حرب حضارية عالمية. وكان هنتجنتون أمينا فأورد كلام المهدي المنجرة في مقدمة الفصل العاشر من كتابه. ولا ينبغي أن يفوتنا أن نشير إلى التفاوت بين رؤية هنتجنتون والمنجرة في ما يخص بصدام الحضارات، فبينما يرى هنتجنتون حتمية الصراع يرى المهدي المنجرة إمكانية تجنبه وتفاديه. يقول رحمه الله في هذا الشأن: "على خلاف موقف صامويل هانتنغتون التي اعترف ضمن مؤلفه (صدام الحضارات) بمرجعيتي وأسبقيتي في طرح مفهوم الحرب الحضارية الأولى، فإن موقفي هو موقف وقائي، أي أننا إذا أردنا تفادي الصدام فلا بد من خلق حوار حضاري بين شمال العالم وجنوبه " و يستخدم المنجرة رحمه الله عبارة الشمال والجنوب للإشارة إلى العالم الغربي الذي يشمل أوربا وأمريكا الشمالية بوصف (الشمال) والعالم الشرقي وكل دول العالم (الثالث) بوصف (الجنوب)". بخلاف نموذج المهدي المنجرة نرى نموذج المثقف الخليجي وبعده عن وصف العالميّة أو الكونية فالمثقف الخليجي في الغالب الأعم فقير من حيث اللغة فنسبة المجيدين للغتين [العربية والإنجليزية] في الخليج يعتبرون نسبة قليلة في الوسط الثقافي في حين تكاد تنعدم معرفة المثقفين بلغة ثقافية أخرى غير اللغة الإنجليزية. وهذا لا شك مؤثر كبير إذا أردنا الحديث عن مثقف عالمي مطلع يستطيع التعبير والتواصل ونشر قيمه ومفاهيمه التي يؤمن بها لمختلف الثقافات الحية كالمهدي المنجرة الذي يتقن أربع لغات ثقافية فبالإضافة لمعرفته بالعربية والإنجليزية أجاد كذلك الفرنسية و اليابانية قراءةً وإنتاجاً . ومع إيماننا أن حاجتنا للمثقف الكوني في الخليج ليست أوليّة كحاجتنا إلى مثقفين حقيقيين فاعلين في مجتمعاتِهم ولكن أردنا بالإشارة لهذا الفارق رسم الحجم الحقيقي للمثقف الخليجي وأنه متخلّف حتى على المستوى العربي من حيث التكوين الثقافي إذا قارنّاه بمثقفين مصريين و مغاربة، وهذا بدون ذكر المشاريع الثقافية والفكرية التي يتفوق عليها الأخيرين على الأول. ثقافة الكرامة تحتل الكرامة كقيمة إنسانية ضرورية يعيش بها الإنسان مركزيّة في كتابات المهدي المنجرة فمع إشارتنا إلى القصة التي افتتحنا بها هذه المقالة و التي تشير إلى أهمية هذه القيمة عند مفكرنا منذ طفولته بقيت مفردة الكرامة تصاحبه في كتاباته الفكرية وتشغله في واقع غابت فيه كرامة المواطن العربي والمسلم. ونحن نقرأ في أحد كتب مفكرنا الراحل وهو كتاب [الإهانة في عهد الميغا إمبريالية] كما تعطي تسمية الكتاب دلالة واضحه على مركزية الكرامة لديه، نجد التالي. "إن القوى العظمى في العالم، والولايات المتحدة على رأسها، تهين شعوب العالم الثالث، وحكامها الذين يتقبلونها دون اعتراض يذكر، قبل أن يهينوا بدورهم شعوبهم. هذه الشعوب تتلقى إذن إهانة مزدوجة، تنضاف إليها إهانة ثالثة عندما يمتنع المرء عن إبداء أية ردة فعل. يحق لنا على هذا الأساس أن نتحدث عن ثقافة الإهانة، أي عن النظام السياسي-الثقافي الذي يستغل انعدام المساواة في معادلات القوة بالداخل كما بالخارج". إن مفردة الكرامة اليوم تكاد تكون غائبة تمامًا في المشهد الثقافي الخليجي . لقد تم تطبيع الإهانة لدى الجميع من النخبة و حتى المواطن العادي هذا التطبيع الذي أنتج لنا ظواهر من النفاق والرشوة و تصالح المثقف والعالم والداعية مع السلطة التي تمارس هذه الإهانة المعلنة. لقد ساهم خطاب العلماء والدعاة والمثقفين إلى استمراء هذه الإهانة و التشريع لها ففي برنامج افتائي يتكلم أحد أكبر المشايخ الرسميين عن الصحافة وينهاهم عن الكلام عن الفقر و معاناة الفقراء في الهجر والجبال "يسكن تحت جبل ويبي كهرباء؟َ" و تصريح آخر لمسؤول كبير عن حماية الدولة لأعراضنا و" بدون دولة لن يستطيع أحدنا أن يحمي مؤخرته"!! فمن الدولة والحكومة يستمد الشعب شرفه و بقاء عرضه مصونًا!! وكلام عالم رسمي آخر عن مركزيّة الحكومة و هامشية الشعوب يتحدث حديث العاطفة بأن "ولاة الأمر يسهرون ويتعبون لأجل راحتنا". هذه الوصف الأمومي يذكرنا بتعاطي المثقفين للقب الأبوّة الذي يخلعونه على الولاة في الخليج وهو خطاب يفضي إلى أن علاقة الشعب بالحاكم علاقة بنوّة و عليها نتجاوز الطاعة و أحاديثها إلى مدى أبعد وهو البرّ المطلوب من الابناء تجاه الأب فتضيع الحقوق وتطمس الكرامة وتذوب واجبات الحاكم في ظل هذا الخطاب الكارثي. في غياب خطاب يولي أهميةً للكرامة سيكون التناقض والنفاق وازدواج المعايير هي السمات العامة للمشهد الثقافي وهذا واقع ما نعيشه. فالوقت الذي نقرأ في سيرة المهدي المنجرة اتساق المفكر مع مبادئه و غياب الإزدواجية والنفاق و البحث عن المناصب، فالرجل رفض وزارة المالية و ترك العمل مع الأممالمتحدة حينما اكتشف أنها تعمل لنشر قيم يهوديه/مسيحية طلبًا للاتساق مع فكرته و انتماءه . نجد النقيض من هذا النموذج في المشهد الخليجي . تناغم المثقف و العالم والداعية مع الحكومات الخليجية يبلغ حد الحلول و الاتحاد بالمعنى الصوفي. قبول المناصب الحكومية و الأعطيات "الشرهات" ظاهرة أصبحت اعتيادية. هذه الظاهرة التي لا تختلف في شيء عن مشهد الإقطاع الغربي في العصور الوسطى. كل ما عليك هو تطويع قلمك و علمك وثقافتك لهوى الحكومات و سيأتيك نصيبك من أرض الله الواسعة والشبك على الحكومة. ولو نشط بعض الشباب من القانونيين والعاملين في البنوك المصرفية لتوثيق هذه العمليات الإقطاعية وكشفها للشعب ليعلم الناس أن كثيرًا من المشايخ و الدعاة والمثقفين ليسوا سوى سرّاق للمال العام ولكن بتسميات مختلفة.أولائك "السفلة" كما يسميهم التابعي الجليل عبدالله بن المبارك يقول: هل تدرون من السفلة؟! من يأكلون الدنيا بالدين. من يأخذ حق الشعب منهم؟! لا تكاد اليوم تجد واعظُا ولا داعية ولا عالما من العلماء في الخليج يحدثك عن مركزية الكرامة لدى الإنسان، لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول "إني أحب للمسلم إذا سيمَ خطة خسفٍ أن يقول بملء فيه، لا !" فأين هذا من الخطاب الشرعي الذي يطوف حول حقوق الراعي ويلقي بحقوق الرعية والحديث عنها وراء ظهره. إن الإزدواجية تصبح خلقا مقبولا في انعدام الكرامة. أحد الكتاب الإسلاميين يملأ الدنيا بكاءً ورثاءً لجماعة الإخوان و يلعن الجيش المصري وداعميه في ليله ونهاره، ثم يأتي أحد حكام الخليج و الداعم الأول للجيش المصري بخطأ في خطاب جماهيري له فيحوّل هذا الكاتب الفذ و القاهر لليبراليين العرب هذا الخطأ إلى قصيدة حبٍ يتلوها في حب مولاه العادل الشفيق على شعبه الشقيق!! لا أحد يلتفت إلى هذا المعنى الفجّ و يتشاغلون بحكم شتم أعداء الدين و مسافهتهم! لقد رانَ الذلُ علينا حتى لم نعد نحس له وجودًا. يقول المنجرة: "الذلّ الأكبر، في نهاية المطاف، حين لا نعود عارفين لمعنى الذل".. لقد ذكرنا هذه الحالة لتدليل كيف صارت الازدواجية مقبولة لدى الناس ولا تثير لديهم علامات استفهام تستوقفهم للبحث عن الخلل. الخوفقراطية هذا المصطلح الذي أنشأه المهدي المنجرة يصف به حالة المجتمعات العربية بجانب الشيخوقراطية والذلُ-قراطية وغيرها من هذه المصطلحات التي كانت تصف حالة مجتمعاتنا بعد الحادي عشر من سيبتمبر وإبان الغزو الأمريكي للعراق. إن الخوفقراطية هي الوصف المعبر لعلاقة النخبة في الخليج بالسلطة و هي في ذات الوقت الحاجز الأكبر الذي يقف أمام أي مشروع إصلاح يمكن أن يفكر فيه أي مصلح. لكن المثقف الخليجي بمختلف تياراته الاسلامي والقومي و الليبرالي يتعايش مع هذه الحالة و يخدع نفس بجدوى سبل أخرى غير المواجهة مع الحكومات. تشمل الخوفقراطية من السلطة كافة المثقفين الخليجيين إذا استثنينا وضع الحراك الشعبي الذي يقوده مثقفون وسياسيون في الكويت. والنقطة التي يجهلها أو يتجاهلها المثقف الخليجي أن جميع القضايا التي يطالب بها وينشدها هي في يد السلطة من فقر وبطالة وحريات وبدون المواجهة مع السلطة وتحميلها المسؤولية الكاملة لما يطالب بها سيبقى يدور في دائرة مغلقة وبدون جدوى. لقد أصبح الموقف الغالب للعلماء والدعاة والمثقفين في الخليج مع السلطة يطابق موقف المهرجين في البرامج الكوميدية التي تنتقد أوضاع البلاد وتتكلم في قضايا مهمة ولكنها تشير دائمًا إلى الوزراء ومن هم تحتهم و يتعامون عمن هم فوقهم والذين هم أسُّ المشكل. لقد كان المهدي المنجرة يصرّح في محاضراته التي تغص بضباط المخابرات أن البلد مختطف ومازال مستعمرا ولكن بطريقة جديدة من الاستعمار وهو واقع البلاد العربية كافة بما فيها الخليج. إن الثورات العربية كانت ثورات تحريرية بالدرجة الأولى نحن نعيش في دول لا تمثلنا ورؤساؤها أشبه ما يكونون بفروع لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية تمثل سياساتها بعيدا عن ضمير الأمة و ما تريده. كيف ينشغل المثقفون عن دورهم؟ كتب غرامشي في دفاتر السجن: "كل الناس مفكرين ولكن قليلين الذين يقومون بدور المفكر". إن الأسلوب الذي يتشاغل به المثقفون لدينا ويتعايشون معه مع حالة الخوفقراطية من السلطة هي الصراعات الفكرية بين التيارات. ولكن هذه الحيلة الرخيصة لن تعفيهم من مسؤوليتهم أمام شعوبهم وأمام التاريخ . ولنضرب مثالًا واضحا على هذه الأسلوب. تمثل القضية الفلسطينية مركزية وخط أحمر لدى الإسلاميين والقوميين في الخليج وحين يتم تجاوز هذه القضية من قبل المتصهينة الخونة من الليبراليين ينبري لهم الكتاب من التيارين السابقين و يتم فضحهم والرد عليهم بوضوح وصرامة مشروعتين. ولكن حين يتجاوز هذا الخط الأحمر من قبل من يمثلون السلطة يعم السكون في كلا التيارين! لقد كتب أحد المسؤولين البارزين مقالاُ فيه من التطبيع مع العدو الصهيوني مافيه و مع ذلك لم نشاهد ردة الفعل المتوقعة حين يُتعدى هذا الخط من قبل مثقفين أو إعلاميين مع أن التطبيع من رجل يمثل السلطة أشد و أنكى ويضر كثيرا بقضيتنا التي نناضل من أجلها، ولكنها الخوفقراطية. بعد كل ما ذكرناه حول الكرامة و الخوف وفاعلية المثقف/الشيخ مقارنة إلى المثقف والمفكر الفاعل الحقيقي نجد أن المثقفين و المشايخ في غالب الحال لدينا يمارسون نوع من أنواع الارتزاق، إذ ليسوا يؤدون المهام والوظائف المنوطة بهم وفي المقابل يرتزقون من مواقعهم في المجتمع إما مالا أو جاهًا أو شهرةً ويبقى انتفاع الشعب منهم صفريًا. لقد تنبأ المهدي المنجرة بالربيع العربي قبل أكثر من عقد من الزمن وهاهو المثقف الخليجي اليوم يساهم بخوفه و جبنه في إطفاء هذه الانتفاضات بتأجيله للمواجهة مع السلطة بالطرق المشروعة والمطالبة بحقوقة بصوت مسموع. أكتب هذا المقال حتى لا يأتي من بعدنا أقوام يقولون إن أحدًا لم يرَ الأمور في الخليج كما هي عليه بل نقلوها لنا بأقلام خائفة و كرامة مطموسة. هذا المشهد كما أراه بهذه السوء بل بتعاسة أكثر لم يستطع قلمي تصويرها كما ينبغي. والله ثم كرامة هذه الشعوب من وراء القصد