لا يزال أدب الرحلات بنكهته العربية يستأثر قلوب القراء شرقًا وغربًا نظرًا لما يمثله من وصف بانورامي لمظاهر الحياة والجغرافيا والاجتماع البشري والتطور المعماري في الزمان والمكان ومستجدات الحياة السياسية والصراعات العسكرية في هذا الإقليم أو غيره. ويأتي كتاب (جسر الجمرات) للدكتور مصطفى عبد الغني متفردًا عن كافة كتب الرحلات السابقة لكونه إبحارًا في أغوار النفس البشرية راصدًا نقائضها ومثالبها غير غافل السياق الرمزي لاستعارات رجم الشيطان والجنة والواقع الحياتي إضافة لرصده تداعيات سطوع الزمن الغربي وخصوصًا الأمريكي في خلفية المشهد العربي وخارطة العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبروز دعوات جادة للحوار بين الحضارات والثقافات وإعادة مد جسور الثقة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي وخاصة في الخليج العربي وشبه الجزيرة. • (جسر الجمرات) وفيض الدلالات: بتحليل العنوان نرى أنفسنا أمام مقطع لغوي يتكون من مفردتين: (المضاف والمضاف إليه) فالأولى كلمة (جسر) وهي تشي بالرغبة لدى المؤلف في العبور والتخطي والخروج من أزمات شتى على المستوى العربي والإسلامي وعلى المستوى الذاتي؛ الخروج أزمة المجتمع الإثني وأزمة الحداثة والديموقراطية والعبور فوق أشواك الماضي العربي المتمثلة في سقوط المشروع القومي ..إن كلمة الجسر هنا تحمل دلالة أخرى هي الرغبة في النجاة والوصول بالسفينة العربية والإسلامية إلى برّ الأمان بعد أن فقدت الفينة ربّانها في بحر العولمة وأحادية القطب الأمريكي وانفراده كوحش بفريسته. وجاء المضاف إليه (الجمرات) ليحمل شحنة من المعاني والدلالات المتشظية في عالم النص/ الكتاب: فالعبور فوق الجسر يقتضي إرادة داخل العابرين تتمثل في الرغبة في التطهر فالجمرات تتضمن معنى النيران الملتهبة. والعابرون معادنهم العربية الأصيلة تحتاج إلى تلك النيران لتنفي خبثها وتزيل الران الذي غطى عقيدتها (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) فأضحت عاجزة عن دفع ما حاق بها من هوان ومذلة. والجمرات تستدعي صورة الزعيم المناضل (المهاتما) غاندي في صورته وهو يسير بقدميه الحافيتين فوق الجمرات المتقد والأشواك إنه تمرين على الصبر وتحدي الصعاب وتغذية للشعب الهندي بروح الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي. وهناك معانٍ ودلالات كثيرة لل(جمرات) تفجرت في نفس المؤلف فجرتها رغبته العارمة في الوعي والمعرفة كدلالة (الرجم) رجم الشيطان بداخلنا / الشيطان: الرغبة والغريزة / الطين / الصلصال/ البدن الذي أضحى سجنا للروح!! والجمرات ربما تكون الإرادة / الحجارة التي سنقذفها على هذا (الجسد / الصلصال) لتحرير الروح / الذات العربية والإسلامية من إسارها وتقشير الران/ الأقنعة الزائفة التي تراكمت فوق وجهنا العربي والإسلامي فأضحى مسخًا وكذبة كبيرة وبتعبير القرآن (أعجاز نخل خاوية) وبتعبير قرآني آخر أصبحنا نحن العرب والمسلمين (هشيمًا تذروه الرياح) رياح العولمة / رياح الغرب الأمريكي العنصري / رياح العنصرية الصهيونية. • المؤلف والقدرة الفائقة على نحت وإنتاج المصطلحات: إن القراءة السيميولوجية لكتاب جسر الجمرات وضعت يدها على فيض من المصطلحات جهد المؤلف في نحتها وإعطائها صيغ دلالية واقعية وموضوعية غير كثير من المصطلحات العقيدية درس دلالتها دراسة مستفيضة وجلّها لنا أبدع تجلية وكان حريصا على أن يكون اللفظ / المصطلح منحوتا بعناية ليؤدي معناه بدقة ووضوح بحيث لا يقع أي لبس في ذهن القارئ أو السامع. والدكتور مصطفى عبدالغني في نحته لمصطلحاته انتقى من مخزون اللغة وقاموسها الجمعي الفاظا تشير إلى ما يفكر فيه وتُسمي ما يراه هذه الألفاظ التي تغدو عَلَمًا يُعرّف موضوعه، ومصطلحًا يميز مادته، تتوسط بين ذات واضعها بما تحمله من طابع ثقافي ونفسي واجتماعي، وما يحركها من أصابع التاريخ وفضاء الجغرافيا وبين موضوع دلالاتها بما يحمله من ثبات المادة، ورسوخ العنصر وشموله.. والمؤلف في سعيه الدؤوب لإنتاج المصطلح كان حريصًا على طرح سؤال ما زال يؤرق الباحثين العرب والسؤال هنا ينجم عن مادة العلم وهي الواقع الحي في مستوياته وجوانبه المختلفة إذا كانت المصطلحات وحدودها ومفاهيمها تحيلنا على واقعية هذا الواقع فلماذا نُعنى بالمصطلحات ولا نُعنى بالواقع؟ ألم نقل إن المصطلحات آلية ضبط وتحديد للدلالة بحيث تصل لغة الخطاب العلمي (على إطلاقه) من خلال المصطلحات إلى مستوى الشفافية والمطابقة في الإشارة إلى الواقع؟ أليس الواقع في مستوى أغراضنا النفعية والعملية وفي مستوى فضولنا العلمي وشهيتنا إلى المعرفة؟ إن الإجابة هنا تقتضي أن نعي مدلول (الواقع) في خطاب العلم والمعرفة البشرية ذلك أننا حين نفهم هذا الواقع على أنه الواقع المباشر الذي نتلقاه حسيًّا يصبح فهمنا عندئذ نفعيًّا وتهتز المعادلة المنهجية بين الذات والموضوع لتصبح الذات عبئًا ترجح به كفتها على حساب الموضوع (الواقع). ومن تلك المصطلحات التي أثارت حفيظة المؤلف فأخذ على عاتقه مشقة البحث وراء دلالاتها مصطلح (رجم الشيطان) يقول المؤلف: (كان السؤال الذي ألح عليّ هو: من هو الشيطان الذي جاءت الملايين من شتى أنحاء العالم لرجمه هنا؟). ويواصل المؤلف جهده الجهيد وراء المصطلح يتتبع دلالاته (لابد أن نتمهل أكثر عند بعض معاني القرآن الكريم للشيطان، فهي معانٍ ترتبط بالعقيدة في المقام الأول- وهي بالتبعية - ترتبط بمعنى مجازي أبعد من المعنى العام..أبعد من أن تقذف بعدة حصوات على نُصب حجري مقام هناك لمرات عديدة وحسب) وأورد المؤلف الكثير من الآيات القرآنية حول الشيطان يرجئ بعدها المعنى الفردي (للشيطان) للدخول بنا إلى المعنى الجمعي (إنه الشيطان الذي كشف عن وجهه أكثر عقب حرب الخليج الأخيرة، فإذا بنا في التسعينيات أما شمال وجنوب، أو أمام حضارات متصارعة في نهاية التاريخ) على حد قول منظّري الغرب اليوم من أمثال فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) وصمويل هنتجنتون في كتابه (صدام الحضارات) وبرنار لويس في مجموعة كتبه المشبوهة التي تهاجم الإسلام والمسلمين بعنف إنه الشيطان الذي يواجه الإنسان الشرقي الآن أمام مخاطر القوى الجديدة في السوق الراسمالي العالمي فإذا بالإسلام هو الإرهاب وإذا بالبحث عن الحقوق هو تهمة الدعوة إلى الحرب، وإذا بالنظرية العنصرية تصل إلى أقصاها بهذا الغرب / الغرب الأمريكي بشكل خاص الذي يحاول الآن إرغام العدو الجديد – على حد قولهم – على الركوع. (إنه قذف الشيطان الذي يسعى بالذبح والاحتلال والإحلال ووهم حقوق الإنسان.. ضد هذا الإنسان الشرقي الذي ينتمي إلى تلك العقيدة) (والواقع أنه شغلتني للحظات الربط بين قذف الشيطان بحرارة، والشارع العربي الذي يقوم – في كل مناسبة تستوجب القيام – بالخروج إلى الشوارع والصياح ضد الشيطان فربطت بين حجر الشيطان هنا، وحجر الأقصى هناك وتساءلت: ألا توجه الحجارة بيد واحدة إلى الشيطان؟ ألا توجه الجمرات بيد واحدة إلى هذا الشيطان.. إنه شيطان الغرب الإسرائيلي.. لقد خطر بذهني الربط بين حجر الشيطان هنا، ورأس هذه القوى الداخلية التي تحاول النيل من مقدراتنا في الاقتصاد والثقافة والسياسة، أليس كلاهما يوجهان بيد واحدة إلى الشيطان.. إنه شيطان قوى السوق، وبعض رجال الأعمال والعملاء والموالين بشكل ما للغرب (عولمته) سواء من أبناء كوبنهاجن أو أبناء الديسابورا ثم إنه خطر ببالي – كذلك – الربط بين حجر الشيطان هذا ورأس الشيطان الأكبر الذي تمثله القوى الأمريكية في سياستها المنحازة إلى إسرائيل، واستراتيجيتها التي بدأت في التسعينيات بوجه خاص والتي تقوم على قوات الانتشار السريع والضربات الاستباقية والردع وسياسة القوى الجوية الخاطفة ذات التكنولوجيا المتطورة). ولأن العلم دائب التغير والتقدم والاتساع فكذلك كان الواقع المبني تحتي وكانت صوره في تغير واتساع لا ينتهي على مستوى الوعي البشري به ومن ثم كان التمرحل التاريخي سمة تنطبع بها وفيها حركة الأفكار وإنتاجها وما يعبر عنها من مصطلحات على نحو ما رأينا مع مصطلح (رجم الشيطان)عند المؤلف وهذا يعني (أن نمو المعرفة يستلزم نمو مصطلحاتها ونمو المصطلحات يعني أن في تكوينها المعرفي ما هو نسبي وخاص (وهو ما عبر عنه زكي نجيب محمود ب(الحشو المادي) أي الارتباط بواقع تاريخي محدد) (فانطلاق المصطلح خارج القيود التاريخية هو الذي يمنحه الثبات وهو ثبات يساوي ما فيه من تجريد). هذه التاريخية في المصطلحات منفذ لإدراك خصوصية الوعي فيها ونسبية القيمة وأن نؤرخ للأفكار بها التاريخ المبين للجامد والنامي والإنساني والمحلي والفاعل والمنفعل والأصيل والدخيل.. بوصفها إشارات دالة: من وجهة الوجود الاجتماعي وعلاقته في مكان وزمان معينين ومن وجهة التغير والتحول المطلق في الوعي المعرفي دون تحديد لإطلاق هذا التحول بقيد من صفات التقدم أو التطور أو الرقي لأن أي علم راق ومتطور ومنظم ما هو في الحقيقة إلا محصول من معاناة الأفكار والصيغ المختلفة للوعي ورث السابق ويورّث اللاحق فهو القديم وما يجاوزه وهو ما أُخذ به من الماضي وما لم يؤخذ به في الوقت ذاته. وهذا ما يشير إليه المؤلف بقوله: (غير أنه ليكتمل المعنى أكثر لا ضرر في الخروج من الذات إلى العام ولا فارق بينهما ولا فارق في هذا الأمر الفصل بين الذات والعام إن التغلب على الفردية إنما هي – درجة من درجات- الوعي بالذات الجماعية أي تبلور الأمور عبر الشعوب وما تلاقيه من تحديات اليوم.. إن الشعوب تخرج لرجم الشيطان ولكنها جميعًا تستطيع – وهنا معنى الرجم الحقيقي – أن تحارب الشيطان وتنتصر عليه وحين نقول الشعوب يصبح المثقفون والمتعلمون في الطليعة.) وبناء الوعي بالمعرفة في تمرحلها تاريخيًّا يستصحب من خلال التاريخية في المصطلحات سياقها الاجتماعي. فالمجتمع المنج لمصطلحاته الخاصة يتمتع حتمًا بقدرة على بناء أفكاره ويجهد في تركيب وعيه وبناء تاريخيته وفضاءاته الثقافية والرمزية المائزة. ويتساءل المؤلف: ما صور العلاقة بين الشيطان والإنسان؟ ثم ما الذي يجعلنا نستدعي المعنى أو نجتهد في استدعائه والاقتراب منه؟ والإجابة عن السؤال الأول تصل بنا إلى الإجابة عن السؤال الآخر. إن مراجعة الآيات القرآنية التي تربط بين الإنسان والشيطان تدفعنا للوقوف أمام آيتين اثنتين: - (من الجنة والناس) (الناس : 6) - (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن) (الأنعام: 112) وعبورًا فوق اجتهادات المفسرين والمصنفين: القرطبي والترمذي وابن كثير والنيسابوري والبخاري والأعمش ثم النسائي وأبي داود وابن ماجه ومالك وغيرهم وغيرهم كثير في هذا الصدد وهم لا يكتفون بتأكيد أن من الأنس من هو شيطان وإنما يصنفون هذا الإنسان الشيطان إلى صور وأنماط عديدة نجدها في الحياة حولنا كما نجدها – في المجاز أو الواقع – بين كل هذه الكتابات القديمة منها أو المعاصرة إن الإنسان هنا يصبح شيطانًا أو كالشيطان وتتعدد الصور ولا تنتهي وتتحدد الدلالة في التحليل. والرحالة مصطفى عبدالغني يسعى أيضًا من خلال رحلته إلى الحج التي قام بها في مطلع الألفية الثالثة يسعى جاهدًا في البحث عن حداثة عربية غير مستنسخة وهو بالأساس سعي ومحاولة للتخلص من خطر الذوبان والاحتلال الثقافيين وأيضًا محاولة لاستنقاذ اللغة من تيارات الانبهار والدهشة الناجمتين عن عمليات الإقصاء والغزو. (ب) المثقف والبغل المزركش: ولأن الرحالة مصطفى عبدالغني قد طاف بلدانا عديدة باحثًا ومحاضرًا ودارسًا بإرادته إلا أنه يتوازى في كتاباته الفكرية والنقدية والإبداعية مع عبدالرحمن منيف في طرح سؤال: (أزمة الحضارة العربية) في تناوله لمقومات الأزمة بدءًا بالأزمة الاجتماعية المتجسدة في بنية المجتمع وشؤون المرأة والدين ومرورًا بالأزمة الإدارية والسياسية وانتهاء بالأزمة الفكرية والثقافية من خلال تناوله لقضايا الاستشراق والتفاعل الحضاري وينظر إلى الدين باعتباره ركنًا من الأزمة العامة البنيوية التي يعاني منها المجتمع فيوجه الرحالة سهام نقده كما فعل منيف إلى الممارسات السلبية الملحقة بالدين والمعتقدات التي تقترب من الخرافة.. فتحت عنوان (البحث عن العلماء) يستدعي الرحالة من الذاكرة كتاب (أم القرى) لعبدالرحمن الكواكبي ومع قراءة الكتاب يعرض لأنماط المثقفين (علماء الدين) ودورهم في قمع المجتمع وحثهم الناس على تقبل الأزمات الاقتصادية والسياسية بشيء من (القدريّة) وهم على صنفين من الناس: إما جبناء يهابون الخوض في الحق وإما مراءون مدّاحون يأبون أن تخالف أقوالهم أحوالهم. ويقول الرحالة مصطفى عبدالغني: وحين نبدأ البحث عن سبب تشوش الدين والدنيا على العامة؟ فنحن أمام صنف ثالث يصفه السيد الفراتي / الكواكبي فيراه في: هؤلاء المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوه وضيعوا أهله؛ وذلك أن الدين إنما يعرف بالعلم والعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال العلماء قيامهم في الأمة مقام الأنبياء في الهداية إلى خير الدنيا والآخرة. وهناك نمط آخر من المثقفين (رجال الدين) أطلق عليه الكواكبي: (الجهلة المعممون) وهم المقربون من الأمراء ولهم دور في إفساد السلطان وإفساد العلم. وهنا نفتح قوسًا كبيرًا لنصف فيه رفض جمال الدين الأفغاني عباءة مهداة من السلطان عبدالحميد مزركشة بخيوط الحرير والذهب والفضة وقال للرسول الذي حملها إليه: (اذهب وقل للسلطان إن جمال الدين يريد أن يكون جمال الدين ولا يريد أن يكون كالبغل المزركش). (ج) دلالة الجغرافيا والعقيدة وحلم الخلاص: يشير الرحالة إلى تموضع العالم الإسلامي في (الزمن الغربي) ووصف حالة التموضع هذه من خلال تجمع المسلمين بشتى لغات العالم لإقامة صلاة الظهر في (عرفات).. إنه تجمع واحد يقوم على العقيدة في مواجهة (الآخر) سواء كان هذا الآخر يعيث فسادًا في الداخل من الداخل أو كان يعيث فسادًا في الداخل من الخارج وفي نهاية الأمر فإن الكلمة الواحدة كانت تجمع على ضرورة التوحيد في العقيدة والتوحد في العبادة بقصد التصدي لكل عوامل الفساد و(الفتور) التي تحيق بهذه الأمة.. كانت صلاة الظهر في عرفات = العبادة؛ انكبابا وتقربًا إلى الله ودعوة إلى التغيير والعمل وطريقًا للخلاص تحقيقًا لقوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) والتقوى هنا شرط من شروط الوعي والرغبة في الخلاص.. إنه الوعي وعي الشعوب الذي يربط بين الحس الديني وضرورة القيام من أية عثرة وهو وعي يدعو إلى ضرورة العبادة الوصلة إلى الخلاص من المحنة والخروج بالأمة مما هي فيه.. وكان التجمع الجغرافي يشير على القصد نفسه إذ كانت الأمة تتجه إلى مكان واحد لإنقاذ الأمة مما حاق بها من التخلف والتمزق والضياع في هذا الزمن الغربي.. وكان الهدف واحدًا وهو ضرورة تكاتف أصحاب هذه العقيدة للوصول إلى الخلاص من هذا الواقع الرديء. * منهج وأسلوب المؤلف: في معرض المقارنة بين المؤلف وابن جبير نجد أن الثاني اهتم بالوصف واعتمد على الملاحظة والمشاهدة البصرية غير أنه لم يهتم بالبحث وراء الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولم يهتم بالتعليق عليها أو تفسيرها، بينما اهتم مصطفى عبدالغني بمنهج وافق فيه أبوعلي المحسّن التنوخي صاحب كتاب (أخبار المذاكرة) وهو أحد أدباء القرون الوسطى العربية؛ فاهتم بالمنهج التاريخي مع العناية بالازدواجية الاستطيقية الجمالية والتصوير التجميلي الممسرح للأحداث حتى يخيل للقارئ أن كل عنوان كتبه المؤلف جاءت على شكل القصة الفنية فهي ليست وصفًا جافًّا للحدث فحسب وإنما هي مشهد ساطع تام الدلالة وعرض كامل للحياة العربية حكّامًا ومحكومين مدنا وبوادي فجاءت كلوحة مرسومة. وكما كتبت ليديا جينزبورج في كتابها (البطل الأدبي) فإن الاختلاق المنطلق عن الخبرة يخلق (واقعًا ثانيًا) ويحمل الأدب الوثائقي التسجيلي إلى القارئ معرفة مزدوجة وانفعالاً مضاعفًا يحفز التأثر وذلك لأنه تتمثل في النفوس معاناة تفاعلية لا تعوض بأي فن في التعامل مع أصالة الحدث الحياتي وتشخص في المقايسة الخصوصية وعدم التطابق التام بين الخطين – خط الحدث الواقعي وخط تأويله الاستطيقي – ديناميكية خاصة للأدب الوثائقي التسجيلي. وقد نلاحظ أن المؤلف لم يحرص على التنظيم التأليفي لكتابه ككل إلا أنه كشف عن مهارة أدبية وحرفة أستاذية في البناء وفق الموضوع.. فالكتاب سرد ذاتي ينزاح عن الحدث إلى الحال موصولا بالموقف – وفق تعبير مصطفى الكيلاني- وبنزوع جارف إلى الكتابة المعرفة افتراضا بنظام (أسلبة) stylisation يتضمن مجموعة أساليب (كالنص المفتوح) يستقدم إليه فضاء وسيعا من التناص. ولأن للسفر دلالة رمزية خاصة في مجمل تراث المتصوفة والزهاد والحكماء في التراث العربي الإسلامي من المنظور الوجودي بعامة فقد استعان المؤلف بتدلاله signifience. (*) كاتب وباحث من مصر