المصري اليوم - القاهرة طفلٌ صغيرٌ يجلس بجواري في الميكروباص، وبينما أطالع حسابي على تويتر من موبايلي، كان الطفل ذو السنوات التسع يتلصص على شاشتي، محاولا هجاء الهاشتاج الذي أطالعه # انتخبوا_ال...! *** ليس خافيا أن انتقاد السيسي أو مشروعه أو أي من المرشحين والساسة أمر طبيعيٌّ في أي مجتمع، بل أمر خارج عن السيطرة في الفضاء المصري الذي انفجر في كل الاتجاهات بعد ثورة يناير. الأزمة الحقيقية، بنظري، تكمن في روح الدعابة والسخرية الطاغية التي ملأت المجال العام، للدرجة التي تحولت معها إلى درجة من درجات التسفيه والاستهزاء بأي حادث وأي شخص، بصورة أفقدت الأشياء معناها. لم يخلق الله السيسي من زجاج، كي نرأف به حين نتعامل معه كمرشح رئاسي وكسليل للمؤسسة العسكرية اللاعب الأهم على الساحة، وليس من المعقول أن «نطبطب» عليه، كرامةً لإزاحته الجماعة من الحكم. السيسي اختار أن يتعرض لجميع التيارات والأفكار حين طرح نفسه مرشحا رئاسيا، ومن ثم عليه أن يدفع الضريبة المتعارف عليها، من راحته ومن اعتزاز أسرته والمحيطين به، لصالح الانتقاد عموما والسخرية أحيانا، تحت ميكروسكوب الجمهور والمحللين. ولكن لأي مدى على السيسي أو على أي شخصية عامة أن تدفع؟ لا يخرج الشخص للمجال العام، سياسيا أو ممثلا أو لاعب كرة أو مذيعًا، ليدفع من كرامته الشخصية، أو ليطالع أفراد أسرته سبابه بأقذع الألفاظ. ففي المجال العام الأمريكي، الذي لا يتورع إعلامه عن «تقطيع فروة» أي رئيس.. تم شن حملات ضارية وساخرة ضد عدد من الرؤساء، دون أدنى شفقة. فبعد فضيحة ووترجيت مثلا، تم وصف «نيكسون» بأنه بونوكيو الكذاب وتداولت الصحف صورته بأنف بونوكيو الطويل.. وبعد فضيحة مونيكا لوينسكي، كانت نشرات الأخبار الأمريكية تطلب من المشاهدين الحذر لأن تقارير متابعة شهادة كلينتون أمام المدعي العام كينث ستار ربما ليس من الملائم أن يسمع الأطفال ألفاظها الفاحشة وتعبيراتها الجنسية الخارجة! بل ونوهت صحف رصينة تعرضت للقضية وتغطيتها بأن المحتوى قد يكون خادشا للحياء.. خاصة حين التعرض للنكات التي أطلقها الأمريكيون حول كلينتون، ويصعب أن أنشرها في مقال صحفي كلاسيكي (يبدو تربويا مملا) كهذا! وحتى مع أوباما الذي طالته العديد من النكات العنصرية فور ترشحه ممثلا عن الحزب الديمقراطي في انتخابات 2008، كان هناك تفرقة واضحة بين السخرية العنصرية منه، وتفنيد شخصه ومشروعه واحتمالات المستقبل الأمريكي تحت قيادته. لا ترأف الصحافة الأمريكية، سخرية وانتقادا، بالساسة.. ولكن لدى درجة معينة من المسؤولية يتم التفرقة الحقيقية بين ما هو «انتقاد» أو «تعليق» وما هو «مهين» و«جارح». مهمة الصحفيين هي مراقبة الأحداث ومتابعتها وتحليلها والتعليق عليها بحرية واحتراف، أما التهليل للدولة الرسمية ورموزها فهو اختصاص أصيل لشركات الدعاية والإعلان ومختصي حملات غسل السمعة. والاستنتاج الذي أسوقني وإياك إليه.. أن اختزال معركة الإخوان، وقطاعات من تيارات مختلفة مع السيسي، في سبابه على نحو مقزز فحسب، هو أمرٌ بائس فعلا. لديكم السيسي بمشروعه السياسي، بأدائه كنائب رئيس وزراء للشؤون الأمنية وكوزير دفاع، افعلوا فيه ما شئتم، وأسسوا لحركة معارضة حقيقية وصحية، بدلا من الشتم الطفولي. شخصيا، لم أجد حرجا من السخرية، في مطلق السخرية، من مبارك ومرسي والسيسي، ومن قبلهم.. أيا كانت درجتها، لكن العدوان اللفظي على أي منهم هو في نهاية المطاف عدوان على ما تبقى من اتزاننا العام. فضلا عن أن الشتم والسباب على هذا النحو يستدرجان بعيدا المعارضة الذكية التي اغتالت بخفة دمها مشروع الإدارة الفاشلة للبلاد في عهد المجلس العسكري، ومشروع الإدارة الفاشلة الفاجرة في عهد الإخوان. ربما وصلنا بالنكتة إلى درجة من القوة والقدرة على النيل من أي مشروع أو شخص على الساحة السياسية.. لكن التشاتم الوقح لن يفضي بنا جميعا إلى شيء سوى تطبيع القبح وتعويد أنفسنا على قائمة جديدة من المصطلحات والألفاظ البذيئة. وربما سنجد أنفسنا في موقف جديد، نصف فيه مرسي بألفاظ تشكك في سلوك أمه، ونصف فيه السيسي بألفاظ تشكك في سلوك أبيه، ونصف فيه أي طارئ على الساحة بأقبح ما أوتينا من معرفة باللغة. وفي نهاية المطاف، لا أتخيل أخي الصغير وهو يطالع تويتر وفيس بوك، ليتعلم منهما ما لم يتعلمه في الشارع، ليصف لي يوما ما بائع السوبر ماركت الواقع أدنى المنزل بأنه ابن كذا أو أمه كذا! ورغم أني أغلقت شاشة موبايلي بينما كان طفل الميكروباص يحاول هجاء السباب المقذع، إلا أن طوفان «الانحطاط اللفظي» الذي أعارضه بوضوح بحق أي شخص، لم يعد بمنأى عن دائرتي القريبة.. وهذا شيء يفزعني. بالطبع سيتعلم أخي يوما ما كل هذه الألفاظ، وبالطبع سيتعلمها طفل الميكروباص.. لكنهما لن يتعاملا معها بوصفها من مألوفات اللغة ومن دارج الاستخدام.. مثلها مثل «صباح الخير» و«شكر الله سعيكم».. لا أزعم الفضيلة ولا أنسبها لنفسي، ولا أحاول إقناعك بأنني عف اللسان مرهف الوجدان حيي الطوية جميل الأخلاق، فهذا ليس هدف مقالي وليس اختصاصك!، لكني أكافح حتى آخر رمق، بألا أجد نفسي وسط طوفان من التشاتم، دون أدنى تفنيد حقيقي لمشروع السيسي وتوجهاته.. ودون تصد حقيقي لكل هذا التسابق في الانحطاط على الساحة السياسية المصرية الذي لن يكبح جماحه ألفاظ خارجة على تويتر أو شتائم قبيحة على فيس بوك. وقبل أن يطالعنا أنصار السيسي بهاشتاج يقول لمعارضيه.. بفجاجة.. أنتم أبناء زنى (ولكن بالصياغة الشعبية الدارجة).. فتصير لغتنا المعتادة هي مناداة بعضنا البعض بآبائنا وأمهاتنا مشفوعةُ سيرتهم بأحط الألفاظ.