الحياة - السعودية تشهد الساحة الثقافية السعودية موسمياً أهم معرض كتاب اليوم في الوطن العربي، وهو معرض الرياض الدولي للكتاب، وهذا التصدر ليس زاوية رأي ثقافية بل رؤية دُور النشر العرب في الأعوام الثلاثة الأخيرة، ومع نتاج المعرفة والتأليف يبدو هناك سؤال مهم في تشكيل عقلية المثقف العربي ولاسيما السعودي في فهمه للفلسفة وما مكانتها الثقافية؟ وهل يجوز أن تدخل ضمن صراع التيارات؟ والفلسفة ليست تياراً، بل علم قائم بذاته له عمق تاريخي معرفي منذ أن خلق الله الدنيا، وهنا يبدو لنا المدخل العميق والحَرِج في السؤال عن حضوره في الساحة الثقافية السعودية؟ ولذلك فإن الإجابة الأولى عن مقتضيات سؤال العنوان هو: هل يدرك الرأي العام الوطني أو أعضاء النادي الثقافي بتعريفه الواسع الكبير - ونقصد كل من يُمكن أن يُصنف بموضوعية مثقفاً - أينما كان وكيفما كان توجهه أو آيديولوجيته هذه الحقيقة؟ هذا التعريف الأولي يقتضي أن يعود الإنسان أو مثقف الوطن إلى أصل هذا العلم بصفتها أداة معرفية للبحث العقلي والاستنباط، ولا يتحول إلى مسارات هذا الجدل في قضايا الصراع الشائكة، بل يبدأ في قراءة أين تقع الفلسفة في تاريخ الإنسانية الوجودي، ولاسيما في معيار الوعي الإسلامي الأول، ومن ثم سيكتشف أن الفلسفة مهما صعدت بها التفاسير فأصل مدار التثقيف الإنساني حولها هو أنها: محور إدارة التبصّر والتفكير العقلي لاستنباط الحقيقة المطلقة أو النسبية، ثم العودة إلى أدوات هذا التفكر في تتبع دلائل الوصول لمشاهد الوجود ومقاصده أو تقويم المشروع والنتاج الفكري للإنسانية وأين وصلت من نسب الخيرية المطلقة للحياة، ومن ثم عقد حلقات الجدل الفلسفي المقارن بين حضارات الأمم أو مساهمات الأفراد. وستجد مادة غنية دسمة من هذا الخطاب في نصوص الكتاب العزيز وفي حركة الاستقراء والإحياء الشرعي لأسئلة المعرفة الكبرى والتفصيلية حتى ينتهي إلى فكرة الإيمان ودلائل العقل بهذه الأداة التي تستقي منها الفلسفة الراشدة معاني الجدل في منهجيته وآدابه. بل إن علماء المسلمين صدّروا المنطق، وهو جزء من مقدمات الفلسفة الأولى في علم العقائد وفي أصول الفقه، وهذا يعني أن التفكير الإنساني ذاته الذي نصفه اليوم بقواعد الفلسفة كان علماً محسوساً في دلائل الكتاب وفقه أئمة المسلمين لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحين قلنا الفلسفة الراشدة لا نعني حصر هذه الآلة أو العلم الجدلي للفكر المعرفي الإنساني في توجه محدد، بل نقصد أن هذه القواعد الفلسفية تحكمها أعراف عقلية مقررة ضمناً للوصول إلى الحقيقة، وليست القضية هي العبور في جدليات لا تنتهي يكون المقصد منها إغراق وسائط الوعي المعرفي بهلاميات أو غموض متولد ينتهي إلى أصفارٍ علمية وعجز عن الاستدلال العقلي، ثم يُنعت بالفلسفة، لأنه يخوض هذا التيه الكلامي بغض النظر عن التوجه الآيديولوجي أو العقائدي للمتكلم أو المنظّر. فهناك مساحة وأدوات ومقدمات ونتائج يتميز بها الجدل الفلسفي الحقيقي وليس الإغراق المطلق أو القفز من خصوص الفكرة إلى عموم التفسير الطبيعي بلا قواعد نظرية ولا عملية. لقد شهد التاريخ السعودي الحديث انعطافات فكرية كبيرة، وهذا التغير الضخم لا يزال قائماً، وهو يدور في حلقات متعددة منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، وصولاً إلى بزوغ الربيع العربي وتصدعه، والمشكلة الرئيسة تكمن في كيفية تشكّل قاعدة التفكير السعودي وهل كانت مستكملة لأدوات الصناعة الثقافية بصورة منهجية تجمع بين الحقوق والواجبات لفقه المواطنة والشراكة الشعبية، وصناعة السلوك المعرفي المؤهل لأخلاقيات المواطن وتديّنه الراشد لا المتعصب، وتنظيم عقله نحو منهاج السمو في التعامل الحضاري مع البيئة والمجتمع، أم كانت هذه المواد غائبة أصلاً في صناعة الفكر السعودي كأداة لتقعيد المواطنة الفاضلة؟ والجواب هو أن هذه المواد كانت غائبة وما كان يحتاج إليه المجتمع هو إعادة تدشين خريطة الصناعة الفكرية للمجتمع السعودي بهذا التنظيم المنهجي وضمان صعوده إلى الأجيال القادمة ومعالجة آثار القصور بمنهجية شاملة تُقرها الدولة وتعتمدها عبر قناعة شعبية متزنة يوصي بها ذوو الرأي والعقل. وأما دفع حركة التناقضات للمصادمة أو المعالجة الترقيعية فصعب أن تُسهم في الوصول إلى تشكل فكري ناضج. وهنا يقفز السؤال المستمر: أين تقف علاقة الثقافة الفلسفية في موقف الخطاب الديني؟ وحينما نعني بالخطاب الديني الخطاب الإسلامي فنحن هنا نشير ضمناً إلى الحق المطلق، لكن توصيف الأدق هو أنه خطاب تيار ديني، يعتمد على تقديم فكره ومشروعه على أنه من قناعته الدينية، فتسميته بالخطاب الديني هو الصحيح وإن تجاوز الناس اليوم في المصطلح وتحاوروا، ولم يقطع كل من يُعتد برأيه أن الخطاب الإسلامي المعاصر مما عُصم في التشريع الإسلامي – بل هو اجتهادات تقبل الصواب والخطأ، ومن ثم تقدير هذا الخطاب عبر معادلة الوعي الفلسفي يأتي من وعيه الذاتي وإدراكه للفلسفة بحسب المعايير التي ذكرناها، ومن الواضح أن هذه المعايير ليست موجودة في نسبة كبيرة من موجهي هذا الخطاب. ومن الطرف الآخر فإن الصدمة المعرفية من بعد أحداث سبتمبر وقبلها - أي من حرب الخليج الثانية 1990 - أنتجت أيضاً توجهاً قُدّم على أنه خطاب فلسفي، لكنه انطلق من رد فعل عنيف تجاه نموذج التدين ونزع لحال تطرف مقابلة للدين بذاته، وليس لخطاب ديني منحرف. فيما حوتِ الساحة السعودية الثقافية شخصيات وتداولات ثقافية وفلسفية راقية كان يجب أن تُشكل شراكة حوار منهجي في المحاضرات العامة وأروقة الفكر الثقافي مع الجميع من دون إقصاء عبر شروط الحوار الموضوعية وليس عواصف التصعيد الهائج. لكن هذه القاعدة من التواصل تأثرت بمواجهات عهد الجدل الفلسفي أو التياري والصراع مع الخطاب الديني فانسحبت أو تكتلت رموز عدة، كما أن سقف الحريات لم يُساعد على تشجيع هذه المواسم الفكرية الراقية. وعزز هذا الفراغ غياب المشاريع المنهجية لهذا المسار من المؤسسات الرسمية، فنشأت مساحة فوضى الصراع الخطابي والثقافي وانخفاض سقف الحريات، إضافة إلى ذلك أن المسؤول قد لا يَحمل هم صناعة هذه القاعدة الفكرية والتداول الثقافي، فيَنصُب مشاريعه على مواسم تختار أو تُقصي ما تراه مناسباً للمواسم السريعة الدعائية أو الثقافية العامة وتفرز من قوائمها واهتماماتها قوائم التفكير الناقد وأصحاب نظرية البناء المعرفي الشامل للمجتمع السعودي، وهو ما يُلاحظه في كثير من المهرجانات والمناسبات المتعددة، حيث يَضعف كثيراً هذا الاستقطاب الفكري الحيوي المهم لصناعة المثقف الوطني المتوازن، ونفتقد تحويل إمكانية الدولة الضخمة إلى ميدان متقدم يُفاخر الأُمم حضارياً بمعايير فكرية ثقافية حقيقية لا مواسم احتفاء وقتي ضخمة المظهر فقيرة المادة الفكرية تُخاطب الخارج العربي والأجنبي، لكسب وده لا كسب قناعته، وجمعهم مع نظرائهم السعوديين باهتمام وتقدير وتقويم منصف يخدم الثقافة وموقع الوطن في الرواق العالمي.