تُقاس الأمم والشعوب والمجتمعات بما تُقدمه للبشرية من إنجازات وخبرات وخدمات وعلوم ومعارف وفنون وآداب، وبما تملكه من ثروات وطاقات وإمكانيات، سواء مادية أو بشرية، إضافة إلى ما تتمتع به من تنوع ثقافي واجتماعي، لأنها أي تلك الأمم والمجتمعات توظف وتستثمر كل ذلك التنوع والاختلاف كحالة من الثراء والتميز والتكامل، وليس مدعاة للاحتقان والانقسام والتنافر. تلك هي الحالة الطبيعية والسليمة التي يجب أن تتمتع بها المجتمعات المتطورة والمتحضرة، والتي أدركت مبكراً أهمية التسامح والتقارب والاندماج، وعدم الانشغال بالاختلافات والتناقضات والتمايزات، لأن مسيرة التطور والتقدم والازدهار تجد بوصلتها الحقيقية في ذلك الاتجاه الرائع. بهذه المقدمة الضرورية، أصل إلى فكرة هذا المقال، وهي قضية معقدة جداً وتحتاج إلى الكثير من الصدق الوضوح والشفافية. "إدارة الخلاف"، ثقافة مهمة للغاية، لا وجود لها أبداً في قاموس الفكر العربي، من محيطه لخليجه. ولعل غياب أو تغييب هذه الثقافة الضرورية عن واقع المجتمع العربي، سواء في العصور القديمة أو الحديثة، يضع بعض الإجابات الشافية عن الأسباب الحقيقية التي أدت لتراجع وغياب الدور العربي الذي كان يوماً في طليعة المشهد الحضاري. المشكلة ليست في وجود الخلافات في مجتمعاتنا، فهي أشبه باختبارات وتحديات لابد منها، خاصة مع وجود من يُغذيها ويسوق لها ويتكسب منها. المشكلة ليست في الخلافات، ولكن في كيفية التعامل والتصرف مع هذه الخلافات نعم، وبكل صراحة ووضوح، نحن كعرب لا نعرف كيف نُدير خلافاتنا. فالمشكلة ليست في وجود خلافات وتباينات، بل وانقسامات بين مختلف المكونات والفئات، ولكنها في كيفية التصدي والتعامل مع هذه الخلافات بشيء من التنظيم والمعرفة والخبرة، أو ما يُمكن التعبير عنه ب "إدارة الخلافات". ولكن السؤال المهم هنا: كيف نُدير خلافاتنا بالشكل الذي يضمن لنا الوصول لأفضل النتائج وبأقل الخسائر؟ سؤال كبير ومعقد كهذا، لا يمكن الإجابة عليه بشيء من التفصيل والتفكيك في مساحة محدودة كهذه. فقط، سأذكر 5 نقاط رئيسية، هي بمثابة مفاتيح قد تُحرض على إجابات شافية لذلك السؤال الخطير. الأولى، هي الاعتراف بأن الخلاف، سواء في الرأي أو الفكر أو المعتقد، أمر طبيعي جداً، ولا يمكن أن تجد مجتمعاً هنا أو هناك، قديماً أو حديثاً، إلا ولديه حزمة كبيرة من الخلافات والصراعات والتصادمات. تلك هي طبيعة الحياة. الثانية، هي المشكلة الأزلية التي تُعاني منها المجتمعات، وهي أن يدعي مذهب أو تيار أو فريق ما بأنه يملك الحقيقة المطلقة والمعرفة الكاملة، ويُمارس الوصاية والتوجيه على الآخرين. إن ذلك الوهم الكبير الذي يُصدقه البعض، هو أحد أهم أسباب الخلافات الخطيرة التي تؤدي إلى تفشي الكثير من الظواهر السلبية كانعدام الثقة بين الأطراف وسوء الظن، وتنامي حالات الحقد والضغينة والعصبية والمذهبية. الثالثة، هي إدراك حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن الخلاف عادة لا يكون في القضايا الواضحة والصريحة، ولكن في الأمور الملتبسة التي تحتمل أكثر من إجابة أو أكثر من وجه. ومجرد الالتفات لذلك الأمر بشيء من الفهم والوعي والتحليل، قد يؤسس لحالة من التسامح والانفراج والتفهم للكثير من الخلافات، وذلك باعتبار أن مظنة الحق في القضايا الملتبسة لا يمكن الحصول عليها، فضلاً عن الخلاف حولها. الرابعة، هي الإيمان بأن الخلافات ليست بالضرورة سبباً للتناحر والتنافر والتشرذم بين مختلف المكونات والفئات، ولكنها قد تكون وسيلة وأداة للتكامل والاندماج في المجتمع الواحد، لأن التنوع والتعدد يمكن توظيفه بذكاء كحالة من التميز والإضافة والثراء، وليس باعتباره مدعاة للتمييز والإقصاء والازدراء. الخامسة، وهي الإلحاح والاهتمام والتركيز على المشتركات بين مختلف الفرقاء وهي عادة كثيرة جداً، وغض الطرف وعدم الاهتمام بالخلافات وهي قليلة ومفتعلة في كثير من الأحيان. إن البحث عن مصادر الخلاف، سواء المذهبي أو الثقافي أو الاجتماعي، تسبب ومازال في الكثير من الفتن والمحن والكوارث للأمة الإسلامية والعالم العربي. إذاً، المشكلة ليست في وجود الخلافات في مجتمعاتنا، فهي أشبه باختبارات وتحديات لابد منها، خاصة مع وجود من يُغذيها ويسوق لها ويتكسب منها. المشكلة ليست في الخلافات، ولكن في كيفية التعامل والتصرف مع هذه الخلافات، وهنا تبرز خطورة غياب ثقافة "إدارة الخلافات"، تلك الثقافة المهمة والضرورية التي لم تستقر بعد في فكر ومزاج وسلوك مجتمعاتنا العربية، بأفرادها ونخبها.