الكويتية - الكويت من المجحف جداً والسخرية أن نكون «خونة» كمواطنين عرب خُلقوا بألسنةٍ عربية! نقدم الولاءات والطاعات للغات الأخرى بكل سذاجة، في ظل الاستعمار اللغوي والغزو الفكري والثقافي الممتد، الذي كاد يصيب لغتنا العربية بالشلل. لقد شعرت بالانكسار حقاً وأنا أقرأ رواية ثلاثية غرناطة؛ رائعة رضوى عاشور، وتحديداً في الفصل الذي تتحدث فيه عن طمس الهوية الثقافية للمجتمعات العربية في الأندلس، وحَرْق الكُتب المكتوبة بالعربية، وإجبار الناس على التنصر، وعلى تغيير أسمائهم ليستبدلوا بها أخرى قشتالية، وفَرض اللغة الإسبانية أو القشتالية كلغة رسمية للبلاد، يتحدثون فيها في الشوارع والمدارس والأسواق، وطمس أي شعائر لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالثقافة العربية، وإذا خالف أحدهم هذه القوانين أو أثيرت حوله الشُّبُهات، أُعدم شنقاً أو حرقاً. هذه المشاهد التاريخية تُبين حقيقة اللغة وتأثيراتها العظيمة في كونها ركيزة أساسية تقوم عليها الثقافات، وتتشكل على أساسها الهوية، وإخضاع المُجتمعات المُستعمَرة يكون بقتل لغتها الأم، وتشييع جُثمانها أمام الملأ دون أن يبكيها أحد! فضخ لغة أخرى إلى المجتمع، يجعله تدريجياً يفقد خواصه الثقافية الفريدة، ويبدأ بالتخلي عنها، ثم يتبنى بعد ذلك لغة جديدة مصحوبة بثقافة جديدة، فيتحدث مثلما يتحدثون، ويرتدي مثلما يرتدون، ويأكل مثلما يأكلون، ويسمي أبناءه كما يسمون، حتى تتعاقب الأجيال فتصبح اللغة الأصلية موروثا شعبيا تاريخيا قديما، أو محض شرخ بسيط في الذاكرة! لكن المُضحك في الأمر أننا لا نحتاج إلى غزو حقيقي بمدرعات وجنود، فدائرة العولمة ضيقت الخناق على اللغة العربية، واستعمرت أوطاننا لغات جديدة، فأصبحنا نغزو أنفسنا بأنفسنا، حتى أُهملت الكتب العربية، وأُهمل الأدب العربي، وأُهملت اللغة العربية كمادة تدرس في المدارس بشكل حقيقي وقوي، واتجه الناس لتجاهلها وتعليم أطفالهم الإنجليزية، بحجة أنها لغة العالم! وهذه كذبة صنعها وصدّقها الإنجليز حتى أقنعوا بها العالم، فشعرت بخطرها العديد من الدول التي تستخدم لغات أخرى، فالفرنسيون قد شكلوا رابطة للدول الناطقة بالفرنسية، ووضعوا الكثير من الخطط والأهداف للمحافظة على لغتهم الأم من الانفتاح العالمي. كذلك الألمان، منعوا المواطنين من استخدام أي لغة أخرى غير لغتهم الأصلية، حتى إنك إذا سألت أي شخص في الشارع بالإنجليزية عن أمر معين، أجابك بالألمانية على الفور دون تردد، وكأنك تفهم وتعي ما يقول! مما يُجبر الناس على تعلّم لغة أهل البلد، ولكننا هنا نستخدم لغة أجنبية للتحدث مع بعضنا بعضا وكأننا لم نولد عرباً، فأُصبنا بحالة من الرفض حتى صرنا لا نستنكر من يتكلم الإنجليزية بطلاقة دون أن يستطيع بناء جُملة صحيحة واحدة بالعربية، حتى أصبح طفل الخامسة يكمل حواراً معك باللغة الإنجليزية، ولا يستطيع أن يعيد الحوار نفسه بالعربية!! هذه جريمة بحق التاريخ وبحق أنفسنا، جريمة بحق اللغة التي نُصلي فيها كل يوم. وأنا لا أقصي بذلك نفسي من دائرة الملامة،ف «اعوجاج» ألسنتنا نِتاج ذاتي، مُجتمعي وسياسي مُشترك، ندفع ثمنه الآن، فتباطؤ حركة ترجمة الكتب العلمية التي تدرس في الجامعات ساهم في إقصاء اللغة العربية وإرسالها للمنفى، حيث يستخدمها عامة الناس والجهلاء أو الأميون الذين لم يكن بوسعهم إكمال تعليمهم!، حتى أصبحت اللغة العربية مهمشة جداً من قبل العالم، ولا تُدرج في إعدادات اختيار اللغة للأجهزة والمواقع الإلكترونية «إلا ما نَدَر». ولكن حقيقة احترام العالم للغتنا العربية تكمن في احترامنا لها أولاً، واعتزازنا بها ليس كموروث ثقافي فقط بل كوسيلة للتفكير والتطور، مما يجعلني أقف عند «هيبوليت»؛ المفكر والفيلسوف الفرنسي حيث قال: «إذا فكرنا من دون لغة، إذاً فنحن لا نفكر».