دلفتُ إلى المحل كما العصفور بلّله القطْر فوجدت مشكلة في ابتياع مظلة تقيني المطر، ومع أن المدينة مزار للسياح فإن تلك البائعة لا تعرف غير لغتها؛ استخدمتُ لغة الإشارة فجاءت لي "بسحاب"، وصفت لها "كابا" لغطاء الرأس فأحضرت لي باروكة شعر، فخرجت حانقا ومعجبا بتمسكها بلغتها في آن واحد. وفي روسيا وتركيا وكل أوربا يتذمر الناس إذا كلمتهم بغير لغتهم الأم. ومن يتابع المؤتمرات الصحفية التي يعقدها المسؤولون الإسرائيليون سواء داخل فلسطينالمحتلة أو في المنظمات والزيارات الدولية تجدهم لا يتحدثون بغير العبرية، والحالة نفسها مع الفرنسيين والألمان والإيرانيين والأتراك، أما نحن معاشر العرب فإن السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال يفضلون استخدام لغة غير العربية. وليس عندي مشكلة في تعلم ومعرفة لغة أجنبية بل أدعو لهما وبشدة، ولكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب لغتنا الأم. إن حال العربية مؤسفة؛ فهي تتعرض لنكران وعدم احترام من أهلها، وهي مثل أي شيء جميل في بلادنا العربية يناله الإهمال. وفي ظني أن الضعف الذي يعيشه العرب تمكّن من كل مفاصل حياتنا العلمية والسياسية والثقافية واللغوية. لقد تساهلنا في التفريط بهويتنا جيلا بعد جيل فكان مما يوشك أن تودعنا اللغة العربية. وقد يجادل البعض بأنها لغة محفوظة، وأقول لهم بأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم وذلك يعني أن هذا المصحف الذي بين أيدينا سيبقى بلغته العربية، ولكن قد لا تجد تلك اللغة من يقرأ بها إلا بواسطة الترجمة، وهناك انفصال تتعمق جذوره بين التلاميذ والقرآن الكريم وخصوصا في المدارس العالمية ولن تظهر نتائجه قبل عدة أجيال. لا أتكلم هنا عن مؤامرة، ولكني أتحدث عن معايشة لحال اللغة العربية ؛ فالحاجة إلى اللغة تبقيها حية قوية، وإذا استطعنا التعبير عن أغراضنا اليومية بغير تلك اللغة فإنها تتراجع في حضورها المؤثر، وأخشى أن يأتي اليوم الذي يقال فيه بأن هذه اللغة غير مناسبة للعصر، ومثلما نتكلم الآن لغة هي مزيج من العربية والإنجليزية ونكتب في وسائط العصر واسعة الانتشار في محادثاتنا اليومية بخليط من الحروف العربية واللاتينية فإن إحياء الدعوة إلى كتابة العربية بحروف لاتينية قد يجد له مبررا قويا هذه المرة. لو فكرتْ دولنا العربية خصوصا الخليجية بأنها لن تتعاقد مع موظف لا يجيد قدرا من اللغة العربية، أو جعلت رسما محددا على الشركات المستقدمة تستخدمه الحكومات لتعليم الوافدين اللغة العربية فإنها بذلك تحقق عدة فوائد منها نشر العربية، والتأكيد على أهميتها، ورفع مستوى الوافدين إلينا، وزيادة كلفة الوافد الأجنبي لمصلحة المواطنين. عِلل اللغة العربية سببها فرضيتان خاطئتان أولهما أنها لغة أمة عربية، وذلك فرض وهمي خاطئ؛ فالموجود ليس أمة بمعنى المصطلح وإنما دول ناطقة باللغة العربية، ولكل دولة همومها وأولوياتها، فالمصالح غير منسجمة، والغايات تبدو متعارضة، وكلّ يغني على ليلاه بما بقي له من اللغة. أما الفرضية الخاطئة الثانية فهي أن العربية هي اللغة الأم للعرب، وهذا غير صحيح ذلك أن اللهجات هي لغاتنا الأم، وعليه فإن مناهجنا وخططنا وسياساتنا اللغوية قد بنيت على فرضية غير صحيحة أدت إلى تركيز مناهجنا على تحسين اللغة وليس تعليمها. إن ربط سوق العمل باللغة الإنجليزية في دول الخليج ليس مُبرَرا ولا عادلا على الإطلاق، إذ كيف نشترط لغة أجنبية على أرضنا، ولا نشترط لغتنا العربية على الوافدين إلينا؟ وإن انتظار جامعة الدول العربية أن تلعب دورا حاسما في شأن اللغة العربية هو انتظار المجهول الذي لا يأتي، ولذلك فإن بلادنا عليها أن تتحمل مسؤولياتها في شأن اللغة العربية.