الشرق - السعودية صعب على المثقف أن يكون مستقلاً، في اللحظة الراهنة، عن الحياة العربية المعاصرة. صعوبته لا تعني استحالته بالمطلق. لقد حقق المثقف عبر نماذج معروفة في تاريخنا العربي الإسلامي ما يمكن أن ينطبق عليه مفهوم الاستقلال باعتباره الباحث عن الحقيقة والمتمسك بأذيال ركائبها، حتى وإن أدى ذلك به إلى طرق التهلكة أو الموت أو التهميش والإقصاء. والبحث عن الحقيقة لا يعني فيما يعنيه سوى الانهمام بصوغ موقف من الحياة والمجتمع وقضاياه والتاريخ والعالم. وهذا الانهمام يتطلب تضحية وجهداً وإرادة، لا تتوفر عند كثيرين، حتى وإن ادَّعى أغلبهم خلاف ذلك. عموماً لست هنا في صدد الحديث عن تلك النماذج، أو ما حققته من إنجاز على مستوى المواقف والتعبير عنها، أو ما حققته من تأثير كبير على صعيد الثقافة والمعرفة والاجتماع. امتناع الاستقلالية هو ما أريد التطرق إليه في هذه المقالة. ربما ما يلفت النظر في مجرى التطورات السياسية والفكرية والدينية التي أدخلت حياة المجتمعات العربية في دوامتها، وما جنته هذه الحياة من مكتسبات، وما أدت إليه من انقسامات، هو ضياع صوت المثقف المستقل بخطابه وبمواقفه وآرائه، وانحسار دوره إلى حدوده الدنيا، وضعف سلطته، هذا إذا كنا نعتقد بسلطته المعنوية، على الأقل في محيطه القريب. والغريب في الأمر، الذي يجعل من المفارقة واضحة للعيان، وساطعة كالشمس، هو أن مثقفي القرن التاسع عشر، وكذلك قسم من مثقفي القرن العشرين في العالم العربي، كانت لهم سلطتهم وأثرهم الواضح الذي اكتسبوه من مواقفهم وثقافتهم كمحمد عبده، وطه حسين، رغم أن الوضع الثقافي والفكري والديني وحتى السياسي، لم يتعقد كثيراً أو يصل إلى حد الاحتقان مثلما هو حاصل في اللحظة الراهنة؛ كي يمكن أن نقول إن مهمة المثقف أصبحت من الضرورة، بحيث يكون في طليعة من يحذرون الانجرار وراء كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الانقسام والاحتراب والتعصب. بينما مثل هذه المهمة للمثقف هي التي تلح عليه في اللحظة الراهنة، وهي التي تدعوه بقوة؛ ليرفع لواء الاستقلال، سواء عن السلطة السياسية أو السلطة الدينية، وبالتالي يؤسس لخطابه الخاص والمستقل، بعيداً عنهما، بل وضدهما كي يتاح للناس التبصر والتمعن في حياتها من خلال ما يطرحه المثقف من خيارات ومقترحات غير سلطوية ولا يشعر أنها مفروضة عليه بالقوة. مع الأسف خيار هذه المهمة للمثقف أصبح مفقوداً، أو منحسراً تماماً عن ساحتنا الإقليمية. لقد أدى الاستقطاب الطائفي وارتباطه بالمشاريع السياسية إلى ترهل دور المثقف، بل وانحساره، وخلت الساحة فقط للطائفيين، تارة تجدهم يذرعون المشهد الثقافي جيئة وذهاباً، رافعين عقيرتهم باسم الثقافة والمثقفين، داعين إلى تحصين الذات العربية والقومية والإسلامية من خطر التهديد المسيحي الغربي، وعلى الرغم من أن خطابهم لا يؤمن بالعنف كما هو حال خطاب الإسلام السياسي الجهادي أو السلفي، إلا أنهم مجرد بيادق في لعبة أكبر منهم. والأدهى والأمرُّ أن الخطر الغربي الذي يتحدثون عنه لم يحظَ عندهم بالمعرفة العقلانية، ولا بالمعرفة السياسية التاريخية التي تحصنهم وتبعدهم عن كل فكرة أيديولوجية مسبقة. هذا ديدن ما يسمى بالمثقفين، سواء في عالمنا العربي أو حتى على مستوى ساحتنا المحلية. بالنسبة لمثقفي العرب جزء كبير منهم إما أنه ماركسي أو قومي، حيث كلاهما انخرط في مشاريع سياسية، أو بعبارة أدق كانا نموذجين للمثقفين الذين ارتضوا أن يصبحوا ورقة في يد السياسي يلعب بها كيفما شاء. ولا أقصد بهؤلاء المثقفين سوى الجيل الثاني من مثقفي الأرياف، أما الجيل الأول فقد كان دوره مزدوجاً، وهذا نادر الحدوث في أوروبا على سبيل المثال، ويحتاج منا إلى وقفة أخرى، فقد نظر للدولة والتحديث تحت تأثيرات وتنظيرات القومية بالمفهوم الغربي من جهة، وتحت تأثير بيان الحزب الشيوعي ومفهوم ماركس عن الطبقة والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى. لذلك يصعب أن تميز في هذا الجيل موقع المثقف في داخله عن موقع السياسي، فالتداخل كان يعبر عن عدة تقاطعات وعوامل سياسية وثقافية جعلت من هذا التمازج واقع الحدوث في تلك المرحلة، أي منذ أوائل القرن العشرين، ولا يسعني هنا ضرب الأمثلة، فالقائمة تطول بذكرهم من أنطوان سعادة إلى ميشيل عفلق. لقد ورث الجيل الثاني من المثقفين هذا التماهي بين الدورين، فهو تارة يمارس السياسة من موقع المثقف التابع، أو يمارس الثقافة من موقع السياسي التابع، وفي كلتا الحالتين هو محكوم بسياق فكري أيديولوجي لا يخرج منه. هذه الظاهرة أفرزت لاحقاً هشاشة في إنتاج خطاب ثقافي له الاستقلالية الفكرية والمرجعية عن كل ما هو سياسي، أو لنقل عصفت به رياح السياسة، وجعلته في مهب الريح، لا يستند على قوة أو سلطة، على الأقل السلطة التي يكتسبها من تاريخه إنجازاته كمثقف كما هو حاصل في الحياة الغربية. نجد مظاهر هذه الهشاشة بارزة في فكرة مشروع المقاومة. حين انحسر الاستعمار عن العالم الثالث، تحت وطأة وتأثير مقولة حق تقرير الشعوب مصيرها، ظلت فلسطين بمعزل عن هذا التأثير، وظل المثقف العربي يتصدر مشهد المقاومة بأدبيات شيوعية وقومية حزبية، وظل منهمكاً ومستغرقاً فيها، ولم يؤهله ذلك؛ كي يؤسس على فكرة المقاومة الشرعية ضد الكيان الصهيوني خطاباً سياسياً وثقافياً نابعاً من تراثه أولاً، ومن ظروفه الجيوسياسية ثانياً، وهذا ما أظهر لاحقاً انحسار تأثيرهم على فكرة المقاومة نفسها، لعدم تأسيسهم مثل هذا الخطاب. لذلك عندما برزت فكرة المقاومة كمشروع سياسي في المنطقة بأدبيات دينية، الأغلب منهم انخرط فيها، تحت تبرير أنها في النهاية مقاومة ضد العدو، متناسين تماماً المعادلة البسيطة المتجذرة في تاريخ أي مقاومة: بالقدر الذي تحرر نفسك من الخارج عليك أن تحرر نفسك من الداخل. التوق إلى العدالة لا يعني التضحية بالحرية، والعكس صحيح. مع الأسف لم يعرف هؤلاء تلك المعادلة إلى الآن. أما اليوم، فالانقسام الطائفي ذهب إلى العمق، ولم يترك للسيف مضرباً كما يُقال. تعزيز الهوية الطائفية هو السائد بين الأوساط الثقافية، ناهيك عن الأشخاص الذين يجاهرون بعدائهم الطائفي، حتى تلك المواقف التي تصدر من أناس يظنون أنهم ليسوا طائفيين فيها، لكنهم متورطون حد الثمالة، ومنغمسون في سجالاتها حد الهوس. الوضع برمته يُفضي إلى الإحباط، وإلى الخوف على مستقبل أبنائنا على هذا المرض. أنا محبط يا سادة، حتى من الكتابة نفسها، ما جدوى أن تكتب والناس في مثل هذه الأزمات يميلون إلى التلقين والاستكانة والتمسك بهويتهم القريبة منهم والقوية في نفوسهم؟! الناس لا تريد أن تسمع خلاف ما تقره تلك الهويات، تراهم يركنون إلى رؤيتهم اليقينية في تحليلهم الأمور: السياسية والثقافية والتاريخية والدينية. هل بعد كل ذلك تبقى للمثقف المستقل مكانة بين هؤلاء؟!