ما زالت مصلحة الزكاة والدخل تدهشني بالمعلومات التي تكشفها تباعا، آخرها تلك التي أعلن عنها نائب مدير عام مصلحة الزكاة والدخل، بأن 15 في المائة من إجمالي المكلفين هم من يقدمون قوائم مالية. فإذا كانت المصلحة قد أعلنت أن لديها ما يقرب من 450 ألف مكلف، فإن عدد أولئك الذين يقدمون معلومات مالية مدققة من قبل مراجع خارجي هم قريبا من 67,5 ألف، وهذا هو حجم سوق مراجعة الحسابات في المملكة، هذا السوق الذي يقدم خدماته 138 مكتبا مرخصا، أي بمعدل 485 عميلا لكل مكتب، فإذا كان متوسط الأتعاب هو تقريبا 50 ألف ريال فإن حجم السوق السعودية هو تقريبا 3,35 مليار ريال ومتوسط نصيب المكتب هو 24,8 مليون ريال سنويا، وعلى هذا فإن مهنة المراجعة الخارجية مهنة واعدة جدا، وفرصة حقيقية للشباب السعودي الطموح، لكني كمتخصص أعرف أن وضع المكاتب الوطنية ليس بهذه القدرة على خلق الإيرادات والمنافسة في السوق، فسوق المراجعة لم يزل تحت سيطرة عدد قليل من المكاتب الكبيرة وما زال الوضع التنافسي فيه دون مستوى الطموح، فكثير من الدراسات ""في المملكة وحول العالم"" أشارت إلى أن ثمانية مكاتب تسيطر على ما يزيد على 80 في المائة من حجم السوق، ووفقا لهذه القاعدة فإن ثمانية مكاتب لدينا لديها وحدها ما يقرب من 53 ألف عميل، بينما يتبقى 14 ألف عميل مخصصة ل 130 مكتبا وطنيا ""20 في المائة فقط"" بمتوسط 107 عملاء لكل مكتب، ""أي أن متوسط الإيرادات سينخفض إلى 5,3 مليون ريال سنويا""، وهذا رقم جيد بالنسبة لمكتب مهني فردي، لكن إذا ما خصمنا التكاليف المرتبطة بالعمل، فإن السوق بهذه الصورة يجعل مهنة المراجعة الخارجية غير جاذبة إلى حد ما، وإذا خفضنا قيمة المتوسط فإن الوضع يزداد سوءا ويشير إلى الحاجة الماسة والقوية لدعم هذه المهنة. إذا لديك مثل هذا التصور عن المهنة ""ومن ذلك سيطرت مكاتب قليلة على السوق"" قبل قراءتك تصريحات نائب مدير المصلحة، فإن الحديث عن مشروع حكومي لضبط تعدد القوائم المالية للشركات من قبل المحاسبين القانونيين وبالاتفاق مع ملاكها، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا من حجم الكارثة الاقتصادية، خاصة أن التصريح تضمن عبارة أن المشروع سيقضي على التلاعب بتقديم استيداع إلكتروني موحد. هل هذا اتهام صريح للمراجعين القانونيين ودورهم في التلاعب بالقوائم المالية وبالاتفاق مع العملاء، خاصة أن أهم الشركات وأكبر المكلفين هم شركات مساهمة مدرجة في السوق المالية، هل لنا أن نقلق إذا كان 80 في المائة من حجم السوق في أيدي ثمانية مكاتب، وهي مكاتب كبرى معتبرة مهنيا على كل حال، وهل يشير التصريح إلى أن هذه المكاتب متورطة في هذا التلاعب. فإذا كانت الإجابة بالنفي ""كما هو متوقع ومفترض""، وإن المقصود أن مثل هذا التلاعب موجود ولكنه غير مؤثر، فهل هذا ""القليل"" يبرر للمصلحة أن تتجه نحو تطوير مشروع الاستيداع الإلكتروني للقوائم المالية مع كل ما يتبعه من تكاليف ومشكلات؟ وبعبارة أخرى هل تتوقع المصلحة أن ترتفع إيراداتها بشكل جوهري من خلال هذا الضبط، لأن فئة قليلة من المحاسبين يتلاعبون في القوائم ""وبالتأكيد لشركات صغيرة الحجم غير مؤثرة في إجمالي إيرادات المصلحة؟"". لست أقول هذا لأظهر أنني ضد الاستيداع الإلكتروني، لكني منذ أن سمعت عنه، وأمر الثقة بالمهنة يقلقني جدا، فلقد تعلمنا منذ المحاضرات الأولى في مادة المراجعة أن الاستقلال عمود المهنة، وأن الثقة هي منتجها الأساسي الذي تضيفه إلى القوائم المالية، لا أعرف إذا كنا قد فقدنا الثقة بالمراجع الخارجي لدرجة أننا نعتقد أن المراجعين يتفقون مع الملاك لإعداد قوائم مالية متعددة لأغراض مختلفة، وما الذي يجعلنا أكثر ثقة بهم بعد مشروع الاستيداع الإلكتروني، ونحن نعلم أنهم سيتفقون مع الملاك. لقد تعلمنا من أساتذتنا الكبار أن الاستقلال لا يخدش وإذا خدش فقد مات، وإذا مات الاستقلال فقل على المهنة السلام. فإذا كانت المهنة عليها السلام بالنسبة للمصلحة فأي فائدة ترجوها من مشروع الاستيداع؟ ومرة أخرى لست أناقش مشروع الاستيداع في حد ذاته، بل مفهومه الخطير على المهنة ""إذا كان 15 في المائة من المكلفين هم من يقدمون قوائم مالية، وإذا كانت الشركات الكبرى هي أكبر المكلفين ومنها تنتج المصلحة أهم إيراداتها"". لست أدعي أن المهنة في المملكة لا تعاني الدخلاء، لكن كم حجم هؤلاء الدخلاء وكم حجم إيرادات مكلفيهم وتأثيراتها في إيرادات المصلحة حتى تتبنى مشروعا مثل الاستيداع بحجمه وتكلفة إدارته وبالطبع إدارة سرية معلوماته. لقد كتبت قبل سنة تقريبا أن المهنة تعاني بعض المشكلات كأي دولة في العالم، وهناك من يبيع شرفه المهني بعرض من الدنيا قليل، لكنهم ""في نظري قليل""، والهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين تبذل جهدا كبيرا ومشهودا لها في تنظيم ومراقبة السوق. كنت وما زلت أقول إن الهيئة تعمل وحيدة في مشروع مراقبة جودة الأداء المهني، وهو مشروع مهم جدا، ولكنه مكلف وتحتاج الهيئة إلى دعم كبير ومشاركة واسعة وكوادر أكبر وأكثر تخصصا وتدريبا لتنفيذه على الوجه المطلوب. ولذلك فإنني أعتقد أن المصلحة كانت في حاجة إلى أن تخلق نوعا من التواصل مع هيئة المحاسبين لمعرفة نتائج مراقبة جودة الأداء، وأن تفرض على العملاء أن يكون المراجع ممن اجتازوا الفحص بنجاح، وإذا كان ممن عليه قضايا أو ملاحظات جوهرية، فإن المصلحة ترفض القوائم التي يراجعها، ثم تجبر العميل على تقديم قوائم من مراجع آخر. لو تعاونت المصلحة مع الهيئة في تعزيز الثقة بالمهنة أكثر، من خلال هذه الأفكار وغيرها كثير، ولو عملت المصلحة على مشروع فرض تقديم قوائم مالية مدققة من 50 في المائة من المكلفين (بدلا من 15 في المائة)، أو على الأقل تقديم إقرار بإشراف مراجع خارجي ""معتمد من الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين""، فإننا سنحقق جميع الأهداف ونعزز الثقة بالمعلومات المالية، دون أن نضع المهنة ككل في محل شك.