محمد عبدالله الشويعر - الشرق السعودية كوريا الجنوبية تُعد إحدى الدول الصناعية الكبرى في المرحلة الحالية، حيث إن التجربة الكورية أو كما تسمى (المعجزة الآسيوية) من التجارب الدولية الحديثة مقارنة بالدول الغربية أو اليابان، وينظر المجتمع الدولي بإعجاب كبير إلى الطريقة التي استطاع بها الكوريون بناء نهضتهم الحديثة بشكل جعل العالم يعدها من التجارب الرائدة والناجحة. سنحت لي الفرصة الشهر الماضي لزيارة كوريا لعدة أيام على الرغم من برودة الطقس هناك، وموسم تساقط الثلوج؛ حيث تجاوزت درجة الحرارة أكثر من (12) درجة مئوية تحت الصفر، إلا أن هذه الزيارة كانت كافية للوقوف على نموذج لدولة متقدمة كانت قبل أربعين عاماً توصف بأنها من أكثر الدول تأخراً وتخلفاً على الصعيد الاقتصادي والتنموي، وكذلك الخدمات والمرافق والبنية التحتية. وهنا نتساءل ما هي المقومات التي اعتمدت عليها كوريا في نهضتها الحديثة؟ وكيف استطاع الكوريون الوصول ببلادهم إلى مصاف الدول المتقدمة؟ الكوريون منذ بداية نهضتهم ركزوا على التعليم بشكل كبير وصرفوا مليارات الدولارات على تشجيع البحوث العلمية المفيدة، ونتج عن ذلك أن استطاعت كوريا القضاء على الأمية تماماً، ويُذكر أن الآباء في كوريا كان همهم الأول هو تعليم أولادهم التعليم القوي والمفيد، فهم صارمون في هذا الجانب فتجد بعضهم يحجز لأولاده مدارس خاصة لتلقي مزيداً من التعليم بعد رجوعهم من المدارس الحكومية وذلك من الساعة الخامسة مساءً وحتى الساعة الثانية عشرة ليلاً لكي يضمن لأولاده دخول أشهر الجامعات الكورية التي تضمن له مستقبلاً زاهراً مثل جامعة (بوستيك Postech) وغيرها من الجامعات الكورية. ويُذكر أيضاً أن العملية التعليمية في كوريا وخصوصاً الجامعات صارمة في تعليمها سواء للكوريين أو لغيرهم، وتعد معايير التحصيل العلمي مرتفعة جداً؛ ما جعل الموارد البشرية الكورية هي أهم أعمدة التجربة الكورية، بل أصبحوا يُعدون من الكفاءات التي تحرص على استقطابها كثير من دول العالم، وهذا ما جعلهم يفكرون ويخططون لمستقبلهم وينجحون في قيادة بلدهم إلى مصاف الدول العالمية الكبرى، أضف إلى ذلك الوطنية القوية التي اشتهر بها الكوريون، فهي التي قادتهم أيضاً إلى هذا التميز والتطور. والمجتمع الكوري يتسم بصفات كثيرة منها: أنه مجتمع متحضر جداً وودود للغاية، ويتميز بنسيج اجتماعي متماسك لا تشاهد فيه تشنجات أو عصبيات فكرية أو ثقافية؛ مما يجعل كثيراً من السياح والمستثمرين يتوجهون لكوريا حيث تمثل نقطة جذب حقيقية في هذه المجالات. والسمة الرئيسة التي يلاحظها من يزور كوريا هي الأمن، فمستوى الجريمة فيها هو الأقل على مستوى العالم، ويتضح ذلك عندما ترى الجميع يرتادون المرافق العامة والشوارع في كل وقت ليلاً ونهاراً دون مضايقات من أحد، وباعتراف أحد الأصدقاء الذين تحدثت معهم هناك فإنهم معجبون كثيراً بهذه الميزة حتى أن أحدهم ومن الذين يعملون لصالح إحدى الشركات السعودية هناك يذكر أنه يترك زوجته وأولاده في المنزل ويسافر إلى السعودية أو إلى أية دولة أخرى، وهو في غاية الراحة والاطمئنان، بعكس الدول الأخرى التي عمل فيها فإنه لا يستطيع ترك عائلته بمفردها مطلقاً. العاصمة سيول (Seoul) مدينة جميلة يقطنها نحو عشرة ملايين نسمة من أصل خمسين مليون نسمة وهو تعداد سكان كوريا، وفي النهار يتوافد إلى العاصمة عشرة ملايين آخرون من المدن المجاورة لأداء أعمالهم، ومدينة سيول جميلة وكبيرة تنقسم إلى قسمين: الجزء الشمالي والجزء الجنوبي، وكلا الجزأين يتميزان بالفنادق الفخمة والأسواق والمطاعم. وقد يستغرق ذهابك من شمال المدينة إلى جنوبالمدينة نصف ساعة إذا كانت الطرق غير مزدحمة، ونحو الساعة عند الازدحام، ومما أعجبني الانسيابية في السير وعدم الإزعاج أو السرعة الزائدة أو التجاوزات غير القانونية. الجميع يقودون مركباتهم باحترام كبير، وكذلك هناك شيء أعجبني كثيراً وهو ما يخص كاميرات السرعة (الرادارات) فقبل كل رادار بكيلومترين يوجد لوحة تشير بوجود كاميرا ثم بعدها هناك لوحة أخرى تشير أيضاً إلى الكاميرا حتى تضطر إلى قيادة المركبة بالسرعة المطلوبة، وعندما سألت بعض الزملاء هناك ذكروا أن هذه الكاميرات ليست لجباية المال وإنما لتنبيه السائقين وتوعيتهم وجعلهم يلتزمون بالسرعة المحددة. ختاماً يجسد النموذج الكوري نمطاً فريدا من نوعه، ونتمنى أن تتاح الفرصة للشركات الكورية للدخول إلى السوق السعودية بشكل كبير؛ حيث لدينا الآن ما يقارب من 120 شركة لها عقود عمل في المملكة، كذلك يجب التركيز على ابتعاث الطلاب إلى هناك لتميز الجامعات في العملية التعليمية، ولابد من تكثيف الدورات التدريبية لبعض موظفي الدولة في كوريا حتى نتمكن من الاستفادة من تجربتهم الفريدة في التقدم والتطور مع التأكيد على أننا عندما نورد أمثلة ونماذج لدول أو تجارب تنموية لا نقصد التقليل أو المساس بمكتسبات وموقع بلادنا في مصاف الدول الناهضة لكننا نريد الانفتاح على التجارب الدولية لغرض الاستفادة من جهة، وتلافي الأخطاء والسلبيات من جهة أخرى علما بأن جميع دول العالم تحرص على تبادل الخبرات والتجارب التنموية بينها.