د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية الشرط الأساسي لكل مفكر يحمل هَمَّ الاستبراء لدينه وعرضه، أن يتوفرَّ على تصور المخوض فيه، وأن يعرف نواقض دينه، ليأمن على ضروراته الخمس، ويتوقى الوقوع في المحذور. فمن تلبس بالحديث عن ظاهرة أو مُتَمظْهر دون استكمال المعلومات، والضوابط، والمناهج، والآليات فقد جنى على نفسه وعلى قبيله. ومن جهل محققات حضارته ناقضها من حيث يريد موافقتها. كما أن من تحدث في غير فنَّه أتى بالعجائب. والجناية والمناقضة تفسدان الحياة والعلاقات، وتُضِلاَّن السبيل، وتُفْقِدان الأهلية والمصداقية. وليس عيبا أن يُخطئ المُفكر، ولكن العيب أن يُصر على الخطأ، وليس عيباً أن يَشُك، ولكن العيب ألاَّ يبحث عن اليقين. و[أبو الأنبياء] عليه السلام سبق [ديكارت] في التساؤل، حين قال: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى (البقرة:260). والذين تاهوا في بنيات الطريق، ثم أدركتهم عناية الله تداركوا أنفسهم، وجَدُّوا في تنقية أجوائهم الفكرية. وكم عرفت مِنْ أساطين الفكر مَنْ عصفت بهم الأهواء، أو قعدت بهم التبعية الأبوية، ولم يطل عليهم الأمد، بل هَبُّوا من تحت ركام الأقاويل، وخَدَرِ الأهواء، وأُمَّةِ الآباء، فكان أن تَحَرَّفوا للتفكير السليم، وتحيزوا للفئة المنصورة، فاستقام شأنهم، واستوى اعوجاجهم، وتمكنوا من البراءة مما بدر منهم، أو اكتفوا بما أفاضوا به من قول سديد، ورأي رشيد. غير أن المتعقبين لهم خلطوا بين المرحلتين، ولم يتحروا المصداقية، فكان اضطراب المفاهيم واعوجاج الآراء. والحديث عن المفكرين مدحاً أو قَدْحاً أشبه شيء بالمرافعات القضائية، يتطلب الاستبانة والبرهان والمصداقية. فالاستبانة تقي من الخطأ بحق الغير. والمصداقية تقي من الخطأ بحق الذات. والبرهان يقطع قول كل خطيب، فمن استمرأ المجازفة في الأحكام كُتب عند الناس كذَّاباً، ومن ثم لا يُصَدَّق، وإن صدق. وكفى المَرْءَ عِبْرة بعلم الجرح والتعديل الذي رفع أقواماً، ووضع آخرين. وظاهرة التجني بحق الظواهر والمتمظهرين قديمة قدم الإنسان، فالتاريخ الحضاري للإسلام مليء بالتعديات على الأعراض والأنفس والآراء والمعتقدات. ولو أنصف المؤرخون للحضارة الإنسانية، لكنا خير أمة أخرجت للناس. وبمثل ما نضيق ذرعاً من القدح المُفْترَى، نضيق بالتزكية الكاذبة، وما أكثر الذين يخوضون في آيات الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، فَيَضِلوُّن، ويُضِلُّون، ويُصَدَّعون وحدة الأمة الفكرية، من حيث لا يشعرون. وعلى كل مقترف لمثل هذه الجنايات، أن يتذكر أنه مسؤول عما اقترف، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18) فكل نفس تأتي يوم القيامة معها سائق وشهيد. والوَرِعُ من فَكَّر وقَدَّر، قبل أن يلفظ بحكم، أو يخطَّ بيده شهادة تزكي، أو تجرم مخلوقاً سيأتي يجادل عن نفسه يوم القيامة. وكيف بمن يجادل عَمَّن يختانون أنفسهم أحياء أو أمواتا في الدنيا أو في الآخرة ؟ هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (النساء: 109) ومن ذا الذي يجرؤ على الجِدال عَمَّن يجترحون السَّيِّئات. والورِعُون من علماء الجرح والتعديل يتوقفون عن مجهول الحال أو الذات، والمتسرعون من الكتبة أو المتحدثين حين لا يتورَّعون عن حصائد الألسن، يَجْنون على أمتهم، لأنهم يزيفون وَعْيها، ويَرْبِكون مسيرتها، ويُرَوِّضونها على استمراء المجازفة في الأحكام. والراصدون لفيوض القول يضيقون ذرعا بتلك السلوكيات المعيبة. ووسائل الإعلام تطفح بالمراء الباطن، والتناجي الآثم، وشهوة الكلام دفعت بالعديد من الفضوليين إلى خلط الأوراق، وتضليل الباحثين عن الحق، واحتقان الرأي العام، وتحفيزه لردة فعل عنيفة. والحديث عن ظاهرة قلقة مقلقة ك(عبدالله القصيمي ت 1996م) يحتاج إلى تبصر في الأمور، وتأصيل للمعارف، وتحرير للمسائل، ومعرفة بالأصول والقواعد والمناهج، فالرجل قضى نحبه بعد أن بَدَّل تبديلا، وترك وراءه كتباً، لا يمكن تخليصه من وضرها. والقول بحقه سلباً أو إيجاباً له معقبات من وثائق لا يمكن الفكاك منها، ويجب علينا أن نَطَّرِح ذات المفكر لنخوض في الفكر ذاته، عبر كتب هي بنات أفكاره، لقد رمَّتْ عظامه، ولَمَّا تزل أفكاره حية تتجدد، وليس هناك ما يحول دون القول بأن جرأته على تدنيس المقدس، سَنَّت سننًا سيئة، لمن جاء بعده، واجترح السيئات. لقد اعتدت بعد صلاة الفجر من كل يوم أن أَقْضِي سويعات من ذلك السكون، أركض بها في فجاج المواقع، وأخوض في أنهر الصحف، عبر ذلك الجهاز المعجزة، وما عدت من مثل تلك الرحلة إلا مُمْتَلِئاً بالوحْشَةِ و الاشمئزاز والاستغراب، مما أسمع وأرى. ومما أثارني تلك التغطية الصحفية عن محاضرة للأستاذ الدكتور (عبدالله القفاري) في أحدية الأستاذ الدكتور (راشد المبارك) في أكثر من موقع.والاثنان أخوان عزيزان عَلَيَّ، و أثق أنهما على جانب كبير من الثقافة والغيرة على مثمنات الأمة، وأنهما أهل للحديث عن مثل تلك المعضلات. ويقيني أنَّهُما لا يَرْضيان أبداً أن يكونا فوق النقد والمساءلة، ويقيني -أيضا- أنهما يبحثان عن الحق، وأنه لا يسُوؤهما أن يُجْرِيَهُ الله على أي لسان. وحديث الأستاذ الدكتور عبدالله حسب التغطية -إن صدقت- محاولة لتبرئة القصيمي مما نسب إليه من إلحاد، وذلك ما نخالفه فيه. وثناء على قُدُراته، وذلك ما لا نختلف معه فيه، وإن كان دون المدح الباذخ.ومداخلة الدكتور راشد معاضدة، وتأييد لرؤية المحاضر، دون تفصيل. يتبع... القصيمي والصَّعْلكةُ الفكرية..! 2-2 د. حسن بن فهد الهويمل وقدري أن القصيمي شغلني حياً وميتاً، وسعيت للوصول إلى أدق تفاصيل حياته، وكتبت عنه أكثر من مقال ودراسة، وناكفت أكثر من متحدث عنه، وبالأخص في مقالاتي:- [تداعيات قراءة دمشقية]. وفيها أشرت إلى حِراكِه الفكري, ومنطلقاته. .. واقتنيت كُلَّ كتبه، وجُلَّ ما كُتِبَ عنه. وحقله في مكتبتي من أوسع الحقول. وأعرف جيداً أنه سيظل مزلة أقدام، ومضلة أفهام. والمقتربون منه لن ينجوا من دخنه، فهو وأمثاله أشبه ب[مثلث برمودا] الأكثر خطورة وغموضاً، بوصفه غابة من المتناقضات، وذا شمولية ثقافية، وتنوع معرفي، وتبحر لغوي. ولهذا فهو يتلاعب باللغة، ويتوسل بتدفقها، كي يتلاعب بالأفكار، ولقد يظل القارئ يلهث وراء مراوغاته وسبحاته والتواءاته، حتى تَبْعُد عليه الشقة، ويستوي عنده المُضِيُّ معه حتى النهاية، أو الرجوع من حيث أتى. وكم أغالب نفسي، وأروِّضها للتعايش مع اللت والعجن، والصعود والهبوط، والإقبال والإدبار، واللف والدوران، والقول ونقيضه، عبر كلام طويل ممطوط ومترادفات لا تنتهي. وهو في هذا الترهل لم يكن بليغاً: [فالْعِيُّ معنى قصير:. يَحْويه لفظ طويل] وحين أفرغ من القراءة، لا يستقر في ذهني ألا قعقعة كلام، ممتلئ بلاغة مُتَصوِّحٍ دلالة. فالرجل مصاب بداء الهذر، واستنزاف اللغة، للإيجاف على الحقائق، ومحاولة نسف الثوابت والمسلمات، وتدنيس المقدس، والعجز عن البرهنة، والإخفاق في جلب البدائل. يقال هذا في مرحلة ما بعد الرِّدَّة. والقصيمي كالأرض السبخة الموحِلة، كلما توغلت فيه، ساخت أقدامك، وتلوثت ملابسك. وما لا ننكره، تبحره بشطر من العلوم والمعارف، وخصامه المبين فيما سلف من كتبه، لقد خلَّف كتبا قيمة، لمَّا تزل متداولة، ومنها يلبس مريدوه على الناس. وما لا ننكره أيضا طائفة من مقالاته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية التي صَدَق فيها، وجمجم عما في النفوس. ولما كان الحق ضالة المؤمن، فنحن أولى بها، لقد كان في مطلع حياته سلفياً ناصع السلفية، وجاء كتابه [هذه هي الأغلال] محطةً فاصلةً بين كتبٍ قيمةٍ، وأخرى سيِّئة، وَرِدَّته تضع ذلك كله تحت طائلة الإحباط والهباء:- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ* تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2،3،4]، و{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23] وذلك مصير كل عمل يفقد الإخلاص والموافقة، وهما شرطا القبول للأعمال. ولكي يقطع المتردد بأنه مُلْحِد، فإن عليه أن يُلِمَّ بآخر كتبه، الذي غاب عن كثير من مُرِيديه: [الكون يحاكم الإله] وهو كتاب لا يجادل حول وجود الخالق وصفاته، ولكنه هِجَاءٌ مُقْذع للخالق. ولم أر مفكراً ينال من الذات مثلما ينال القصيمي من ذات الله جل وعلا، لقد تعدى مقولة اليهود:- {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:65]. والمفكر الحق يُمَوْضِعُ الذات الإلهية، دون المساس بها سخرية أو هجاء، بحيث يتحدث عن وجودها، وقدرتها، وعلمها، وصفات الكمال فيها. أما أن يُوْسِع الذات هجاء وسبا وسخرية، فأمر لا يمكن تصوره، فضلاً عن احتماله. والكتاب يقع في أكثر من سبعمائة صفحة، كله ينضح بالفحش، والقذارة، وسوء الأدب. وحتى الملحد الذي يحترم نفسه، لا يقبل التردي إلى هذه المستويات، وأنا متيقن بأن أكثر المتقحمين لعوالم القصيمي لم يقرؤوا هذا الكتاب الفضيحة، لأن قارئه وإن كان علمانياً شمولياً، أو شيوعياً مادياً، يربأ بنفسه عن قبول مثل هذا الهراء الساقط: علماً وأخلاقاً. ولو أن أحداً من المتحدثين عن القصيمي توفر عن هذا الكتاب، لما تردد في سحب (جهاز الطرد) عليه، والصيرورة به إلى قعر المجاري، إذ لا يليق بمثله إلا ذلك المكان، ألم يقرأ هؤلاء قوله تعالى:- {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]. والمفسرون يكادون يجمعون على أنه واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم، من قيحٍ ودمٍ، يَسيلُ فيه صديد أهل النار. ورجل وقِحٌ يَسُبُّ الذات الإلهية، وينال منها، لا يليق بمثله إلا ذلك الغي. والكُتَّاب والمحاضرون المعذِّرون، لو قرؤوا هذا الكتاب، لفكروا، وقدروا قبل أن يحاولوا إنقاذ سمعته، أو تزكيته. وإذا كان [القصيمي] قد تبرأ من مثل هذا الكتاب، فليأتوا به، لنترحَّم عليه، فنحن لا نود للإنسانية إلا النجاة في الدنيا والآخرة. وكم من مفكر، شط به فكره، ثم صَحَى ضميره، فعاد، وتبرأ مما بدر منه، نجد ذلك عند [مصطفى محمود] و[ سيد قطب] و[خالد محمد خالد] وإن ظل فيما أفاضوا به من بعد شيءٌ من دخن الماضي. ولكنهم لم يلحدوا، ولم يعاندوا، ولم يصروا على الحِنْثِ العظيم، مثلما فعل القصيمي، الذي لا أتردد في القطع بإلحاده على ضوء ما ترك من وثائق. و[ظاهرة الإلحاد] في العصر الحديث، ليست غريبة، ولا نادرة. وعلى الطيبين أن يقرؤوا تاريخ الإلحاد، والتعرف على أساطينه، ممن قضوا نحبهم على ما كانوا عليه، وممن صحت ضمائرهم، فتابوا، وأنابوا. وبِوُدِّي لو أسْعَفني الجهدُ والوقت لتحرير مصطلحات [الزندقة] و[الإلحاد] و[الرِّدَّة] التي واكبت الفكر العربي. والقصيمي فوق ما أشرنا إليه هدام، لا يدعوا إلى نجله، ومرتزق لا ينطلق من مبدأ، وهجاء لا يعف عن عرض، ومهذار لا يمل من الترديد، ومتناقض لا يتردد في ضرب النظريات بعضها ببعض. ومن ركن إليه فإنه جاهل به، أو مكابر، شاء أم أبا. بقي أن أقول: إن المتحدثين عنه ابتداء، يجب حسن الظن فيهم، وتذكيرهم بما غاب عنهم، فإن بلغتهم الحجة، وأصروا على رأيهم الفطير، فهم شركاء في المقترفات. فالمنصف يُرْشِد الجاهل، ولكنه لا يحكم عليه، ومَنْ أجْهل وأضل ممن يؤمن بالله ورسوله، ثم لا يتحرج من التعذير، والتبرير لمن بَدَا عَوَارُه، وعَمَّتْ أضراره. وإذا كان [عبدالرحمن بدوي] حطيئة الفلاسفة، فإن [عبدالله القصيمي] صعلوك المفكرين.