وقدري أن القصيمي شغلني حياً وميتاً، وسعيت للوصول إلى أدق تفاصيل حياته، وكتبت عنه أكثر من مقال ودراسة، وناكفت أكثر من متحدث عنه، وبالأخص في مقالاتي:- [تداعيات قراءة دمشقية]. وفيها أشرت إلى حِراكِه الفكري, ومنطلقاته. .. واقتنيت كُلَّ كتبه، وجُلَّ ما كُتِبَ عنه. وحقله في مكتبتي من أوسع الحقول. وأعرف جيداً أنه سيظل مزلة أقدام، ومضلة أفهام. والمقتربون منه لن ينجوا من دخنه، فهو وأمثاله أشبه ب[مثلث برمودا] الأكثر خطورة وغموضاً، بوصفه غابة من المتناقضات، وذا شمولية ثقافية، وتنوع معرفي، وتبحر لغوي. ولهذا فهو يتلاعب باللغة، ويتوسل بتدفقها، كي يتلاعب بالأفكار، ولقد يظل القارئ يلهث وراء مراوغاته وسبحاته والتواءاته، حتى تَبْعُد عليه الشقة، ويستوي عنده المُضِيُّ معه حتى النهاية، أو الرجوع من حيث أتى. وكم أغالب نفسي، وأروِّضها للتعايش مع اللت والعجن، والصعود والهبوط، والإقبال والإدبار، واللف والدوران، والقول ونقيضه، عبر كلام طويل ممطوط ومترادفات لا تنتهي. وهو في هذا الترهل لم يكن بليغاً: [فالْعِيُّ معنى قصير:. يَحْويه لفظ طويل] وحين أفرغ من القراءة، لا يستقر في ذهني ألا قعقعة كلام، ممتلئ بلاغة مُتَصوِّحٍ دلالة. فالرجل مصاب بداء الهذر، واستنزاف اللغة، للإيجاف على الحقائق، ومحاولة نسف الثوابت والمسلمات، وتدنيس المقدس، والعجز عن البرهنة، والإخفاق في جلب البدائل. يقال هذا في مرحلة ما بعد الرِّدَّة. والقصيمي كالأرض السبخة الموحِلة، كلما توغلت فيه، ساخت أقدامك، وتلوثت ملابسك. وما لا ننكره، تبحره بشطر من العلوم والمعارف، وخصامه المبين فيما سلف من كتبه، لقد خلَّف كتبا قيمة، لمَّا تزل متداولة، ومنها يلبس مريدوه على الناس. وما لا ننكره أيضا طائفة من مقالاته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية التي صَدَق فيها، وجمجم عما في النفوس. ولما كان الحق ضالة المؤمن، فنحن أولى بها، لقد كان في مطلع حياته سلفياً ناصع السلفية، وجاء كتابه [هذه هي الأغلال] محطةً فاصلةً بين كتبٍ قيمةٍ، وأخرى سيِّئة، وَرِدَّته تضع ذلك كله تحت طائلة الإحباط والهباء:- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ* تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2،3،4]، و{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23] وذلك مصير كل عمل يفقد الإخلاص والموافقة، وهما شرطا القبول للأعمال. ولكي يقطع المتردد بأنه مُلْحِد، فإن عليه أن يُلِمَّ بآخر كتبه، الذي غاب عن كثير من مُرِيديه: [الكون يحاكم الإله] وهو كتاب لا يجادل حول وجود الخالق وصفاته، ولكنه هِجَاءٌ مُقْذع للخالق. ولم أر مفكراً ينال من الذات مثلما ينال القصيمي من ذات الله جل وعلا، لقد تعدى مقولة اليهود:- {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:65]. والمفكر الحق يُمَوْضِعُ الذات الإلهية، دون المساس بها سخرية أو هجاء، بحيث يتحدث عن وجودها، وقدرتها، وعلمها، وصفات الكمال فيها. أما أن يُوْسِع الذات هجاء وسبا وسخرية، فأمر لا يمكن تصوره، فضلاً عن احتماله. والكتاب يقع في أكثر من سبعمائة صفحة، كله ينضح بالفحش، والقذارة، وسوء الأدب. وحتى الملحد الذي يحترم نفسه، لا يقبل التردي إلى هذه المستويات، وأنا متيقن بأن أكثر المتقحمين لعوالم القصيمي لم يقرؤوا هذا الكتاب الفضيحة، لأن قارئه وإن كان علمانياً شمولياً، أو شيوعياً مادياً، يربأ بنفسه عن قبول مثل هذا الهراء الساقط: علماً وأخلاقاً. ولو أن أحداً من المتحدثين عن القصيمي توفر عن هذا الكتاب، لما تردد في سحب (جهاز الطرد) عليه، والصيرورة به إلى قعر المجاري، إذ لا يليق بمثله إلا ذلك المكان، ألم يقرأ هؤلاء قوله تعالى:- {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]. والمفسرون يكادون يجمعون على أنه واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم، من قيحٍ ودمٍ، يَسيلُ فيه صديد أهل النار. ورجل وقِحٌ يَسُبُّ الذات الإلهية، وينال منها، لا يليق بمثله إلا ذلك الغي. والكُتَّاب والمحاضرون المعذِّرون، لو قرؤوا هذا الكتاب، لفكروا، وقدروا قبل أن يحاولوا إنقاذ سمعته، أو تزكيته. وإذا كان [القصيمي] قد تبرأ من مثل هذا الكتاب، فليأتوا به، لنترحَّم عليه، فنحن لا نود للإنسانية إلا النجاة في الدنيا والآخرة. وكم من مفكر، شط به فكره، ثم صَحَى ضميره، فعاد، وتبرأ مما بدر منه، نجد ذلك عند [مصطفى محمود] و[ سيد قطب] و[خالد محمد خالد] وإن ظل فيما أفاضوا به من بعد شيءٌ من دخن الماضي. ولكنهم لم يلحدوا، ولم يعاندوا، ولم يصروا على الحِنْثِ العظيم، مثلما فعل القصيمي، الذي لا أتردد في القطع بإلحاده على ضوء ما ترك من وثائق. و[ظاهرة الإلحاد] في العصر الحديث، ليست غريبة، ولا نادرة. وعلى الطيبين أن يقرؤوا تاريخ الإلحاد، والتعرف على أساطينه، ممن قضوا نحبهم على ما كانوا عليه، وممن صحت ضمائرهم، فتابوا، وأنابوا. وبِوُدِّي لو أسْعَفني الجهدُ والوقت لتحرير مصطلحات [الزندقة] و[الإلحاد] و[الرِّدَّة] التي واكبت الفكر العربي. والقصيمي فوق ما أشرنا إليه هدام، لا يدعوا إلى نجله، ومرتزق لا ينطلق من مبدأ، وهجاء لا يعف عن عرض، ومهذار لا يمل من الترديد، ومتناقض لا يتردد في ضرب النظريات بعضها ببعض. ومن ركن إليه فإنه جاهل به، أو مكابر، شاء أم أبا. بقي أن أقول: إن المتحدثين عنه ابتداء، يجب حسن الظن فيهم، وتذكيرهم بما غاب عنهم، فإن بلغتهم الحجة، وأصروا على رأيهم الفطير، فهم شركاء في المقترفات. فالمنصف يُرْشِد الجاهل، ولكنه لا يحكم عليه، ومَنْ أجْهل وأضل ممن يؤمن بالله ورسوله، ثم لا يتحرج من التعذير، والتبرير لمن بَدَا عَوَارُه، وعَمَّتْ أضراره. وإذا كان [عبدالرحمن بدوي] حطيئة الفلاسفة، فإن [عبدالله القصيمي] صعلوك المفكرين.