القادسية يعمق جراح الاتفاق بثنائية في ديربي الشرقية    الصحة.. الاستثمار والمستقبل    لبنان: استمرار العدوان..ورفض لمساعي وقف النار    ترمب وهاريس.. سباق محموم وتصعيد كلامي    إرسال 10 آلاف جندي إسباني إلى فالنسيا    زيلينسكي يطلب بوقف القوات الكورية الشمالية    ولي العهد.. ورؤية المملكة حول ما يجري في المنطقة    الفتح يتعادل مع الفيحاء إيجابياً في دوري روشن السعودي للمحترفين    القبض على 5 أشخاص في جدة لترويجهم مواد مخدرة    التوتر خلال الاختبارات طبيعي    وجاء رجل    المملكة تستعرض جهودها لحماية البيئة    التعاون يواصل التعثر في «دوري روشن» بالتعادل مع الخلود    فتيات ينتجن مستحضرات من التمور    دعوة لتبني تقنياتٍ جديدة لتعزيز استدامة البيئة البحرية    الهلال الأحمر بالجوف يرفع جاهزيته    طلاب جازان يتفننون بالابتكارات والبحوث    المُدن السعودية.. تنميةٌ واستدامة    خطيب المسجد الحرام: الزموا حفظ كرامة البيوت    خطيب المسجد النبوي: املؤوا قلوبكم بحُب الرسول والشوق إليه    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يُنقذ "ستينية" مصابة بالسكري من بتر الساق    «سعود الطبية» تنفذ 134 ألف زيارة رعاية منزلية في خمس سنوات    أول صور ثلاثية للغدة الزعترية    المملكة تعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف بالسودان    بالإجماع.. إعادة انتخاب عبدالله كامل رئيساً لإدارة مجلس «عكاظ» ل 5 سنوات    أودية ومتنزهات برية    مخالفو الإقامة الأكثر في قائمة المضبوطين    حين تصبح الثقافة إنساناً    "فيفا" ينهي تقييمه لملف ترشح المملكة لإستضافة مونديال 2034    مجلس إدارة رابطة أندية الدرجة الأولى للمحترفين يعقد اجتماعه 11    ميقاتي يتابع قضية اختطاف مواطن لبناني    فرع الصحة بجازان ينظم مبادرة "مجتمع صحي واعي" في صبيا    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    وزير الإعلام يرعى ملتقى المسؤولية المجتمعية الثاني في 20 نوفمبر    منطقة الجوف تكتسي بالبياض إثر نزول البرد مع هطول الأمطار الغزيرة    الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبراهيم البليهي.. مثقف لا يسأم من التكرار

لم أر في العالم العربي، من محيطة إلى خليجه، ومن رفاعة رافع الطهطاوي إلى آخر موديل ثقافي في يومنا هذا، مثقفا جادا يكرر أفكاره بالقدر الذي يفعله المثقف السعودي الجاد إبراهيم البليهي، وهي الأفكار التي صار يصرح بها تدريجيا، ابتداء منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بسنتين وبضعة أشهر، في مقالاته وفي محاضراته وفي مقابلاته الإعلامية، رغم أن اشتغاله بالكتابة يعود إلى تاريخ أبعد من ذلك التاريخ! إننا نعلم أن التكرار في خطب الدعاة وعظات المبشرين مستحب عند أتباع الدعاة المسلمين، ومستطاب عند رعايا المبشرين المسيحيين، ويرتشفونه كما الماء الزلال. وإننا نعلم أن هناك فئات هي ليست من الجماهير الإيمانية لا يضيق صدرها به، وقد تتقبله منهم ولا تتشدد في الحكم عليه، لإدراكها أن التكرار خلق الداعية وجبلة المبشر. في حين أنه غير مستساغ وغير مقبول صدوره من المثقفين، ففضلا عن أنه في ملتهم ممل ومضجر، فإنه يعد علامة لا تخطئها العين على النضوب والأمحال.
ومما يزيد الإملال إملالا والضجر ضجرا، أن ما ألف المثقف إبراهيم البليهي تكراره، والذي بسببه قيل ويقال عنه عند البعض من اتجاهات فكرية مختلفة، سعوديين وغير سعوديين، إنه «مفكر» و«فيلسوف» و«نهضوي» و«تنويري» و«ذو عقل نقدي» و«سابق لعصره»، وإنه «لم يكن ابن حاضرنا، لكنه ابن مستقبلنا»، إلى غير ذلك من الهبات السخية ليس إلا لوكا لآراء رينان الشهيرة التي أطلقها في منتصف القرن التاسع في أكثر من كتاب ومن مقالة له. وهي الآراء التي حكمت على العقل السامي والحضارات الشرقية على نحو عام، وعلى العرب والعقلية والثقافة العربية على نحو خاص، بالدونية والمحدودية والقصور الطبيعي أو الفطري، وقضت بأن الحضارة اليونانية والحضارية الرومانية والحضارة الغربية حلقات عضوية متصلة من الإعجاز والفرادة والاستثناء في التاريخ الحضاري والتاريخ البشري.
ومثل هذه الآراء كانت هي السائدة في مرحلة من تاريخ الاستشراق، مرحلة تتصف بالتفسير العنصري للتاريخ والحضارات، والذي كان منشأه وأساسه علم اللغة، وتتسم بالروح القومية الاستعمارية التي لا تخلو في التنظير من صبغة دينية مسيحية غربية، رغم علمانية هذا التنظير.
وما ألف تكراره هو أيضا ليس إلا لوكا لما قاله مثقفون مصريون كثر خلال المنتصف الأول من القرن الماضي. ذلك أن آراء رينان تلك كانت متبناة عند كثرة من المثقفين المصريين (أدباء وصحافيين ونقادا وأكاديميين وسياسيين ومؤرخين وفنانين، كبارا ومتوسطين وصغارا، مؤسسين ومقلدين، أساسيين وثانويين وهامشيين، ومشاهير ومغامير، ملاحدة ومؤمنين، علمانيين وطائفيين، مسلمين ومسيحيين، متحررين وتقليديين، ثوريين ومحافظين، متطرفين ومعتدلين)، طيلة سنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات إلى أوائل الخمسينات ومنتصفها، مع الإشارة إلى أنه طيلة تلك الفترة ولأسباب مختلفة حصل عند بعضهم شيء من التراجع عن تبنيها في بعض وجوهها، ومع الإشارة أيضا إلى أنه كان ثمة اتجاه وأعداد من المثقفين المصريين يعارضونها لكنهم كانوا قلة.
كما أن آراء رينان كان لها في لبنان منذ وقت مبكر من القرن الماضي معتنقون ودعاة، كاليسوعيين الكاثوليك والكيانيين اللبنانيين الداعين إلى القومية الفينيقية وشيع اليمين المسيحي الانعزالي. وكان يعلن عنها - قبل فترة استقلال لبنان وبعد فترة استقلاله - في بعض المدارس وفي بعض الجامعات وفي بعض المؤلفات والندوات الأدبية والثقافية العامة، بلغة أكاديمية رصينة وهادئة وناعمة. وفي سنوات الحرب اللبنانية الأهلية كان يعلن عنها بصوت عقائدي زاعق وأسلوب خشن يستفز العروبة السياسية، والعروبة الثقافية، ويستفز الكينونة الإسلامية، معتقدا ولغة ووجودا وتاريخا.
ومما يجدر ذكره أن ما قاله كثرة من المثقفين المصريين في الفترة الزمنية المشار إليها آنفا، خاصة في عقدي العشرينات والثلاثينات، مع تعاظم الآيديولوجيا المعادية عنصريا للعرب والمعادية ثقافيا للتراث العربي الإسلامي، هو إعادة حرفية لآراء رينان وتنويع عليها، وترديد لآراء ابن خلدون في العرب والاقتصار في ترديدها على ما كان شائنا وإغفال ما كان إيجابيا عنهم، واستعادة لكلام الشعوبيين القديم المتناثر في كتب الأدب وكتب الثقافة العربية الكلاسيكية (راجع كتاب «هوية مصر بين العرب والإسلام»، تأليف ج. جانكوفسكي وأ.جرشوني، ترجمة: بدر الرفاعي).
وكان هؤلاء يعتمدون منهج هيبولت تين القائم في تفسير العمل الأدبي والفني على ثلاثية (العرق – البيئة - العصر)، وهو المنهج الذي استمر الأخذ به عند جمهرة من النقاد المصريين في أجيال متتالية لأغراض تختلف عند بعضهم عن بعض الغايات السياسية والآيديولوجية التي استخدم فيها ذلك المنهج عند جيل ثورة 1919 كالتنظير للقومية المصرية الفرعونية والتنظير لإقليمية الأدب العربي.
وبالاعتماد على منهج تين، ومن خلال توظيفه توظيفا سياسيا وآيديولوجيا دعائيا، كان المنظرون للقومية المصرية الفرعونية يمجدون العرق والبيئة المصرية، ويعظمون الأدب والفن والحضارة الفرعونية، وفي المقابل يحطون من العرق والبيئة العربية البدوية الصحراوية، ويزرون من الأدب والفن والثقافة والحضارة العربية الإسلامية.
فمن هذا المصدر الأخير تعرف إبراهيم البليهي على آراء رينان وعلى منهج تين. ومن منهج تين نزلت إليه «الحتمية البيئية» وهبط عليه «التفسير العرقي» مؤخرا، فراح يستخدمه أو بالأحرى يلوك ما سبق أن قاله مثقفو القومية المصرية الفرعونية منذ قرابة قرن من الزمان، انطلاقا من منهج تين، وصدورا عن نظرية رينان وعن نظريات الاستشراق العنصري، عن انحطاط العرب الأبدي وضعة شخصيتهم الأزلي وانحدار ثقافتهم السرمدي.
وأحسب أنه لا يخفى على القارئ الذي له أدنى اطلاع على تاريخ المذاهب الأدبية وعلى مناهج الدراسات الأدبية في الغرب، وله أدنى معرفة بتاريخ النقد الأدبي ونشأته الحديثة في مصر، أن منهج تين (وآخرين ممن ينتظمهم المذهب الطبيعي أو النقد العلمي الصرف للأدب)، كان بدايات المنهج التاريخي المادي في دراسة الأدب، وكان بدايات ما يصطلح على تسميته بالواقعية في الأدب. وأن هذا المنهج في مصر والعالم العربي، كان بداية الانتقال من الطريقة التقليدية في دراسة الأدب إلى المنهج العلمي الحديث المقتبس من الغرب.
وأحسب أن ذلك القارئ لا يخفى عليه أيضا أن منهج تين والمذهب الطبيعي برمته لم يعمر طويلا في الغرب، فقد ذوى في أوائل القرن العشرين وتراجع الأخذ به في العالم العربي بشكل كبير بعيد خمسينات القرن الماضي.
ربما يخفى على عدد من المتحررين في الثقافة والفكر من منازع متباينة وعلى جموع من الحداثيين، ويخفى على مجاميع من الذين ينشدون التحرر في السنوات المتأخرة بالسعودية، أن منهج تين الذي اختصر القوانين الطبيعية التي يخضع لها الإنسان - ويخضع بالتالي لها أدبه وفنه وفكره - بالعرق (أو الجنس) وبالبيئة (أو الوسط أو المحيط) وبالعصر (أو اللحظة أو الزمن) منهج مستخدم في كتب مدرسية تعليمية تتناول موضوعات في التراث الأدبي العربي ألفها أكاديميون ودارسون مصريون مصنفون لدى أجيال متحررة سالفة معاصرة لهم ضمن تيار التقليدية الفكرية والمحافظة الثقافية.
يؤسفني على ضوء ما تقدم أن أقول: إن المثقف إبراهيم البليهي يلوك ما يلوك على نحو – جد - متأخر: متأخر بالنسبة لسنه، ومتأخر بالنسبة لعمر تجربته الثقافية، ومتأخر بالنسبة لزمن الأفكار التي لم يسأم - في السنوات الأخيرة - من الإسراف في علكها، إذ يعود تاريخها في أوروبا إلى القرن التاسع عشر، ويعود تاريخها في مصر ولبنان إلى أوائل القرن الماضي، وهي على الإجمال أفكار لا يختص بها لا الانعزاليون المصريون ولا الانعزاليون اللبنانيون (الذين أميل أنه لم يتعرف على أدبياتهم)، وإنما كانت تتردد في جنبات الفكر العربي الحديث منذ عصر النهضة إلى مشارف ستينات القرن الماضي، وهي جزء لا يتجزأ من «تراث» هذا الفكر، رغم أن مصدرها مصدر غربي.
وإذا كانت الحداثة - بمختلف مستوياتها - هي مرجعيتنا في النظر والحكم والتزمين، فنحن إزاء أبعاد متعددة للتأخر اجتمعت في فكر رجل واحد. لعل أهونها مسألة السن ومسألة العمر الثقافي، وأشدها وطأة هو التأخر بمعناه الآيديولوجي وبمعنييه المنهجي والفلسفي.
والاختلاف هنا - هذا إذا ما تجاوزنا قضية التكرار الممل والمضجر - ليس قائما على أنه يلوك شيئا من «تراث» الاستشراق الكلاسيكي وشيئا من «تراث» القوميات الإقليمية في العالم العربي، وعن طريق التراث الأخير يلوك شيئا من «تراث» علموية الغرب في القرن التاسع عشر، وإنما الاختلاف قائم وينطلق من أنه يردد أفكارا هي من «أدبيات» الاستشراق ومن «أدبيات» عصر النهضة العربي ومن «أدبيات» المثقفين المصريين في المنتصف الأول من القرن الماضي، ولا يقدمها بصفتها تلك، وإنما بوصفها من بُنيّات أفكاره وخطير إضافاته.
والاختلاف قائم وينطلق من أن الأفكار التي يرددها نقلا عن تلك الأدبيات على أنه صاحبها، إذا ما وضعت في سياقها المنهجي والآيديولوجي المتسق والصحيح، تتناقض تماما ونمط تفكيره الديني المحافظ، وتتناقض وتوجهه السياسي والفكري المعادي للقومية، أيا كانت ومتى كانت، عداء مطلقا. وذلك لأنه في نظرته لمسألة القومية وغيرها من المسائل أسير لتنظيرات المودوي وأبي الحسن الندوي وسيد قطب ولمحمد المبارك ولكتاب محمد مصطفى رمضان «الشعوبية الجديدة» ولأقاويل قافلة من الكتاب والمثقفين الإسلاميين الحركيين.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني أراه شعوبيا شعوبية فجة ناحية العرب، بوصفها مقولة سياسية وثقافية وآيديولوجية في العصر الحديث، والعرب جنسا وثقافة وعقلية وقيما عبر التاريخ، تاريخ الإسلام وتاريخ ما قبله.
والاختلاف قائم وينطلق من أنه وهو الذي لا يكف عن تلاوة الهجائيات عن أمة بأكملها، هي الأمة العربية، في ماضيها (الإسلامي وما قبل الإسلامي) وحاضرها، ما زال يعتذر لتطرف وغلو فرد واحد من هذه الأمة، اسمه سيد قطب!!.. يعتذر لتطرفه وغلوه بكلام مردد منذ أوائل سبعينات القرن الماضي وأواسطه. وهذا الكلام ليس سوى أباطيل نمقها «الإخوان المسلمون» وروجها بعض الليبراليين الغربيين وبعض الليبراليين العرب الذين تعرضوا لحياته وفكره إما بالدراسة وإما بالكتابة الصحافية، بتواطؤ حينا وبغفلة حينا آخر.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني أراه يمارس تضليلا متعمدا، يتعدى تاريخه الآيديولوجي الشخصي إلى تاريخ الثقافة العربية الحديثة، وإلى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية وحضارتها الكبرى.
والاختلاف قائم وينطلق من أن آراءه وتفسيراته يكتنفها اعتباط وتعسف ومنطق مرتبك وتناقض ركيك لا يليق أن يقع به مثقف مصقول، ناهيك عن أن يكون هذا المثقف حامل لواء الفلسفة اليونانية ولواء الفلسفة والثقافة الغربية ورافع راية العقل والعقلانية والعقل والتفكير النقدي التي ما انفك يلوح بها ما بين مقال ومقال ومحاضرة وأخرى.
والاختلاف قائم وينطلق من أنه على خلاف ما يرى كثيرون، أراه يمثل تركة ثقافية محلية، هي عنوان ضعفنا العلمي والمنهجي في السعودية.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني لا أرى علاقة مستترة ولا علاقة ظاهرة بين ما صار يردده منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بسنتين وبضعة أشهر، وما بين الأزمة السياسية والأمنية والثقافية العالمية التي نشأت عن إرهاب الحادي عشر من سبتمبر.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني أعتبره حالة معبرة عن ذاك المثقف المتأزم والمحتدم والغاضب، لا بسبب أوضاع واقعنا العربي والإسلامي وأحوال ماضينا البعيد، وإنما – أساسا - بسبب خطل تصوراته حول هذا الواقع وذلك الماضي، وحول التاريخ إجمالا وحركته، وإن ادعى هو غير ذلك.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني لا أرى أن لديه فكرة أو ملحوظة خاصة به، وأن ما ينسب له وينسبه هو لنفسه، هو - حقيقة - لغيره وليس له، هذا إضافة إلى أن الفِكَر التي اشتهرت عنه واحتفى بها كثيرون في السعودية، لم يحسن عرضها وقدمها بصورة مشوشة ومهزوزة.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني لا أرى في كل ما كتبه منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وبضعة أشهر عن قضية سياسية أو قضية ثقافية أو قضية تاريخية أو قضية إسلامية، طرحا ذا قيمة، فما يقوله بصدد هذه القضايا كليشيهات من التعليلات معدودة، يستخدمها في العويص من هذه القضايا والبسيط. وكنت ألاحظ أنه لا يتحدث في المشكلة والأزمة الإسلامية ابتداء، وإنما يضطره إلى الحديث فيها صحافي في مطبوعة أو إذاعي في إعلام مرئي أو أعضاء في منتدى إنترنتي، فيحرف الإجابة عن أسبابها ومسبباتها وما هو من صميمها إلى عزف لا يكل على تلك التعليلات المعدودة.
وهنا أدلف إلى صلب مضمون الاختلاف تحت هذا العنوان:
مقدمة قديمة تهدم مقدمة جديدة منطلقات الاختلاف هذه والملحوظات التي سبقتها، لا يسعني الوقوف عند كل واحدة منها بالشرح والمناقشة، لأنني إن فعلت ذلك فإن الشرح والمناقشة سيطولان، وإنما سأكتفي بالوقوف عند بعضها. ولنبدأ مما سميته التضليل المتعمد لتاريخه الآيديولوجي الشخصي الذي سأعتمد فيه على مقتطفات من تقديم أحد تلامذة إبراهيم البليهي لأستاذه، عارضا بعض ما جاء في التقديم للمناقشة.
يقول عبد الله المطيري معد ومقدم كتاب «البليهي في حوارات الفكر والثقافة»:
- «كثيرا ما يثير خروج مفكر تنويري من نجد أسئلة متعجبة أبرزها تتساءل: كيف استطاع هذا الفرد الخروج من ثقافته التقليدية وهو يقبع جسديا في عمق عمقها؟.. نتحدث هنا عن عصر لم يكن الانفتاح الحالي موجودا فيه، نتحدث عن الخمسينات والستينات من القرن الماضي في قلب نجد، في بريدة، حيث عاش البليهي طفولته في أسرة اشتهرت بالعديد من الفقهاء والقضاة على المذهب الحنبلي ومن المدرسة الوهابية».
- «اعتمد البليهي على ذاته في عملية خروجه من بيئته التقليدية أو كما يسمي هذه العملية (الانعتاق من البرمجة الثقافية)، فهو يؤكد أنه ليس مدينا لمعلم بعينه ولا لأي شخص بذاته لتوجيهه أو مساعدته على هذا الانعتاق. كما أنه لم يسافر للدراسة خارج الوطن، لكن البليهي يحكي دائما عن الكتب، رفيقة دربه وملاذه الدائم وبالذات الكتب التي تتناول الفكر الفلسفي الغربي والتاريخ الأوروبي والحضارة الغربية وتجربة اليابان وسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية».
- «لا يرى البليهي في مسيرته الفكرية انقطاعا وتحولا حادا من توجه معين أو آيديولوجية محددة إلى نقيضها، وبالفعل، فإن البليهي لم يتبن آيديولوجية محددة.. حدث هذا في أوج وعنفوان الآيديولوجيات القومية والماركسية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي. وهي الآيديولوجيات التي قل أن انعتق منها مفكر عربي، كما أنه لم يقع في شرك الآيديولوجيات الإسلامية صاحبة الحضور الواسع والعريض في الثمانينات والتسعينات».
قبل أن أشرع في نقاش المقتطفات هذه، يجب أن أنوه بأن مقدمة الكتاب لا تمثل رأي المطيري وحسب، وإنما – أيضا - تمثل رأي البليهي في تاريخه الفكري، فالمقدمة كتبت بالتشاور معه، لأن كاتبها تلميذ له وقريب منه. كما أنها ارتكنت على انتقاء شيء من إجاباته في اللقاءات التي أجريت معه، وعددها أحد عشر لقاء، ضمها الكتاب.
على عكس ما يقول عبد الله المطيري في مفتتح مقدمته، وبالمعنى الذي يقصده بتعبير «مفكر تنويري»، كان البليهي في طليعة الأشخاص من السعودية ككل وليس من منطقة نجد وحسب، الذين تبلورت لديهم الآيديولوجية الإسلامية المحدثة وعلى الأخص فكر «الإخوان المسلمين» بشقيه التقليدي والقطبي، وصنعوا عملا ثقافيا يندرج في ما يصطلح على تسميته بالكتاب الإسلامي المعاصر (هذا إذا ما استثنيا منطقة الحجاز لأن فيها اسمين أو ثلاثة من جيل سبقه من الأدباء والكتاب، كانوا متشربين قبله للفكرة الإسلاموية المحدثة، وقفزنا على اسم الشيخ عبد الرحمن الدوسري، نظرا إلى أن نشأته الفكرية كانت في الكويت رغم أنه من منطقة نجد، ومن القصيم تحديدا). والبليهي هو ثاني شخص في العالم العربي والعالم الإسلامي والعالم أجمع (أقول العالم أجمع بحكم أن هناك دراسات أجنبية توالت وتتوالى عن سيد قطب وبحكم أنه محل اهتمام عالمي في دنيا الأكاديميين والباحثين والصحافيين من قارات مختلفة) كتب عن سيد قطب.
هاتان الريادتان، الريادة المحلية، والريادة الإقليمية والدولية، هي عند المؤرخ البعيد عن المزايدات الفكرية السطحية محل تقدير وتثمين. فبالنسبة للأولى يعتبر الفكر الإسلامي المحدث (وفكر «الإخوان المسلمين» ضمنه) في عقدي الخمسينات والستينات وعقد السبعينات فكرا معاصرا وجديدا وحديثا على الساحة الدينية في السعودية ودول الخليج. وبالنسبة للأخرى، يسجل له أنه ارتاد موضوعا، كان في التصدي له من السابقين.. موضوعا تراكمت فيه دراسات شتى والكتابة فيه - على صعيد الدراسة والبحث والكتابة الصحافية - لم تنقطع إلى الآن. ومن المؤكد أنها لن تنقطع في المستقبل، للتأثير الهائل والمخيف الذي أحدثه سيد قطب في الوعي الإسلامي.
في البحث الذي قدمه البليهي لنيل درجة البكالوريوس من كلية الشريعة بالرياض في العام الدراسي 1390 - 1391ه وطبع في بحر ذلك العام في مطابع الرياض، وكان البحث عن سيد قطب وتراثه الأدبي والفكري، يورد معلومات في مقدمة البحث تتناقض تماما مع المعلومات التي وردت في المقتطفات الثلاثة من مقدمة عبد الله المطيري. هذه المعلومات هي:
- أنه إلى قرابة سن العشرين لم يكن يقرأ في الكتاب الإسلامي الحديث، وكانت قراءته في الكتب الدينية السلفية التي ألفها المسلمون الأقدمون. وعند تركه الانتظام في الدراسة بعد نيله الشهادة المتوسطة (أو الإعدادية) ببريدة، وانتقاله إلى الرياض للالتحاق بالعمل الحكومي، التقى بالإنتاج الإسلامي الجديد، وكان من أوائل الكتب التي قرأها آنذاك مؤلفات محمد أسد (ليوبولدفايس). ويختم هذه المعلومة بالقول «إنها كانت قوية الجاذبية، شديدة التأثير، ثم صرت أتابع كل ما ينشر من إنتاج جديد حول الإسلام».
- يؤرخ لبداية قراءته كتب سيد قطب، بسنة 1384ه (وكان وقتها موظفا حكوميا بالبلدية ومنتسبا في الوقت نفسه إلى معهد علمي) قائلا «قرأت كتابه (السلام العالمي والإسلام) فتعلقت به تعلقا شديدا، وصرت أبحث عن مؤلفاته بشوق وأقرأها بنهم، وأتابعها باندفاع، وكنت كلما قرأت له كتابا جديدا، تمنيت لو أستطيع أن أقنع شباب الإسلام بما يحتويه».
- أنه منذ أن عرف سيد قطب وهو «معني بالتعريف به مهتم بدعوة الناس إلى قراءة مؤلفاته والتعريف بحقيقة أمره».
- أنه ألقى محاضرة في إحدى دور العلم، تحدث فيها عن الفكر الإسلامي المعاصر، وعن عدد من أعلامه، وكان سيد قطب في طليعة الذين تحدث عنهم، ومن تلك المحاضرة تولدت عنده فكرة إعداد كتاب عن سيد قطب.
- البحث الجامعي المكلف به حينما كان طالبا منتسبا للسنة الرابعة من كلية الشريعة سنة 1390ه، كان عن الإمام الطبري، ولما كان مسبوقا إلى الكتابة عن هذا الإمام، وأنه لن يكون لبحثه عنه أي قيمة إلا الاجتياز المرحلة، بينما اعتبر أن الكتابة عن سيد قطب ما زالت بكرا بحيث يتسنى له أن يقدم شيئا نافعا، فإنه عرض على أستاذ مادة البحث مناع القطان الفكرة، فوافق على ذلك، ومن ثم شرع في التحضير للموضوع.
- عبر عن اندهاشه وحيرته عندما علم أن سيد قطب كان من مدرسة طه حسين ثم من رجال العقاد (سيد قطب لم يكن يوما ما من مدرسة طه حسين، فقد كانت صلته به صلة وظيفية وإدارية. ولقد جاءت صلته به بعد انقطاعه عن العقاد الذي كان أستاذه والمؤثر الأوحد فيه لسنين عدة منذ انتقاله من قريته إلى القاهرة)، يقول عن هذه اللحظة أو لنقل الصدمة الصحوية «كنت أحسبه أول الأمر أقدم وأكبر وأرسخ قدما من هؤلاء، وظننت أن الأدباء أهملوه جريا مع الموضة الجديدة في الابتعاد عن الدين تشبثا بالتحرر واندفاعا مع التيار الجارف». فلم يتصور أن صاحب «في ظلال القرآن» حديث عهد بالدراسات الإسلامية، بل كان يعتقد أنه قد أنفق عمرا مديدا في التعمق في الإسلام والتوسع في الثقافة العامة ذات المصادر المتنوعة. وبعد البحث تبين له أنه من أبناء القرن العشرين، بينما كان طه حسين والعقاد كلاهما من أبناء القرن التاسع عشر، فقد سبقاه إلى الحياة بمدة طويلة.
- من الدوافع التي حملته على تأليف كتاب عن سيد قطب أنه رأى أن الفكر الإسلامي المعاصر قد تكامل واستوى على سوقه، فاشتدت حاجته إلى «الترويج» و«التسويق»، فأضحى من الواجب إذاعته ونشره بكل السبل وفي جميع المجالات. هذا الأمر أعاد الحديث عنه في خاتمة الكتاب، فقال «إنه كان من بواعث إعداد هذا البحث أنني التقيت بالكثيرين من (طلبة العلم) ومن (الأدباء) و(المتأدبين)، فألفيت جلهم لم يقرأ شيئا لسيد قطب، ووجدتهم يعللون التقصير بانشغالهم بأعمالهم اليومية وعدم اتساع وقتهم لمتابعة ما يكتبه هو أو غيره. فخطر في نفسي أن الفكر الإسلامي اليومي ليس بحاجة إلى الإضافة بقدر ما هو بحاجة إلى الترويج».
هذه المعلومات المنقولة من مقدمة كتابه الأول وهوامشها، ومن هامش الصفحة الأولى من خاتمته، عدا أنها تتناقض مع المقتطفات التي أوردناها من الكتاب الذي أعده وقدم له عبد الله المطيري، وتتناقض مع أحكام أخرى لم نوردها في هذا المقال، فإنها تمدنا بصورة تاريخية أخرى عن البليهي وعن البيئة والمناخ الذي عاصره في صباه وفي أول شبابه وفي أوجه. على الأرجح هي في كثير منها أقرب للتاريخ الصحيح..
أولاها، أن تعرفه على الكتاب المعاصر، أيا كان هذا الكتاب دينيا أو دنيويا، لم يكن في مرحلة الصبا والمراهقة، ولم يكن في مدينة بريدة، بل تعرف عليه وهو يناهز سن العشرين في مدينة الرياض.
ثانيتها، أن الكتاب الإسلامي المعاصر لم يكن في مرحلة صباه وفي أول شبابه متوفرا في بريدة عاصمة منطقة القصيم، وإنما كان متوافرا في الرياض عاصمة السعودية، وربما في مدن أخرى كبرى، كبعض مدن الحجاز. وهذا أمر متوقع، فعواصم الدول، وكذلك المدن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.