ياسر الزعاترة * نقلاً عن "الدستور" الأردنية في لبنان لم يكن ثمة خلاف على كره النظام السوري بين الغالبية الساحقة من المسيحيين، وفي مقدمتهم الموارنة الذي يشكلون النسبة الأكبر من الطائفة. يتوافقون في ذلك مع القطاع الأكبر من السنّة، في حين وجد غالبية الشيعة في النظام السوري حليفا إستراتيجيا بالغ الأهمية، وبالطبع تبعا للتحالف الإيراني السوري المعروف. في المرحلة الأخيرة بعد لقاء الجنرال عون مع حزب الله فيما يعرف بتحالف الثامن من آذار، اختلفت نبرة بعض المسيحيين حيال النظام السوري، وإن بقي الكره كامنا في نفوس معظمهم، لأن لقاء السياسة لا يستتبع بالضرورة لقاء القلوب، لاسيما أن المسيحيين لا يزالون ينظرون إلى النظام السوري بوصفه المتسبب في تهميش حضورهم في الدولة اللبنانية. قبل أيام قال البطريرك الماروني بشارة الراعي خلال مؤتمر أساقفة فرنسا «كنت آمل لو يعطى الأسد المزيد من الفرص لتنفيذ الإصلاحات السياسية التي بدأها»، مضيفا أنه «إنسان منفتح. تابع دراسته في أوروبا، وتربى على المفاهيم الغربية. لكن لا يمكنه القيام بمعجزات لوحده». ولخص الراعي رأيه بالقول «لسنا مع النظام، لكننا نخشى المرحلة الانتقالية». مضيفا «علينا أن ندافع عن المسيحيين وعلينا أن نقاوم بدورنا». أما الأسوأ فيتمثل في قوله إن «تأزم الوضع في سوريا أكثر مما هو عليه سيوصل إلى حكم أشد من الحكم الحالي كحكم الإخوان المسلمين». وهو رأي سانده الجنرال عون بقوله «بديل النظام الحالي في سوريا سيكون الإخوان المسلمين الذين يؤمنون بأن الديمقراطية هي ضد الشريعة» (هل يبرر ذلك حتى لو صحّ وهو غير صحيح تأييد الدكتاتورية؟!). لم نكن في حاجة إلى رأي البطريرك الماروني وصاحبه الجنرال لنعرف أن غالبية المسيحيين في لبنان، وربما عموم المنطقة يقفون إلى جانب النظام السوري (هناك قطاع مسيحي لبناني له رأي آخر بالطبع)، ومعهم بالضرورة غالبية العلويين والدروز، والسبب برأيهم هو ما ذكره البطريرك، أي الخوف من المرحلة الانتقالية، وبتعبير أدق من البديل المحتمل عن النظام السوري. لا خلاف على أن الأقليات غالبا ما تصطف إلى جانب الأوضاع القائمة ما دام احتمال بقائها ممكنا، لاسيما إذا كانت جيدة بالنسبة إليها، لكن هذا الموقف لا يُعد مقبولا بالمقاييس الأخلاقية عندما تكون تلك الأوضاع من اللون الدكتاتوري، ولا أعتقد أن البطريرك الماروني، ومعه سائر المسيحيين يعتقدون أن بشار الأسد جاد في تحقيق إصلاحات حقيقية تمنح الشعب فرصة التعبير عن نفسه وتقرير مصيره بحرية كاملة. واللافت هنا أن التبرير الذي يسوقه البطريرك هنا لا صلة له البتة بالمقاومة والممانعة كما هو حال البضاعة التي يبيعها بعض القوميين واليساريين لتبرير وقفتهم إلى جانب النظام، لاسيما أننا نعلم مثلا أن وقوف الأخير مثلا إلى جانب حزب الله وحرص على سلاحه لم يرق يوما للمسحيين اللبنانيين على وجه التحديد، وبالطبع تبعا لاعتقادهم بأن الحزب يستخدم سلاحه في تحقيق نفوذ سياسي في الداخل اللبناني. هنا ينبغي أن يُطرح سؤال بالغ الأهمية حول البديل المحتمل في سوريا، والذي يمكن أن يشكل تهديدا للأقلية المسيحية كما يعتقد البطريرك وسواه، والإجابة أن أحدا من قوى المعارضة، بمن فيها الإسلامية وفي مقدمتها جماعة الإخوان لم يطرح في يوم من الأيام خطابا يهدد تلك الأقلية، فيما هو يفعل العكس حيال جميع الأقليات، وليس صحيحا ما قاله عون عن موقفهم من الديمقراطية، ما يضع الموقف في خانة الخوف التقليدي من الإسلاميين، وربما الموقف الطائفي المسبق منهم بصرف النظر عن خطابهم وسياساتهم. ويبقى أن عاقلا في سوريا لا يصدق بالفعل حكاية القوى السلفية والإرهابية التي تهدد البلد وأقلياته المخالفة في المعتقد. في مصر على سبيل المثال لم يكن الإخوان هم الذي يغذون الخطاب الطائفي ضد الأقباط، بل النظام نفسه، وهو الذي كان يميز ضدهم في الحالات التي يشتكون منها، وفي أي بلد عربي آخر لن يكون الموقف مختلفا. أما العراق وما جرى فيه للمسحيين، فلا يبدو الموقف قابلا للقياس، ليس فقط بسبب ضآلة حضور التيار السلفي الجهادي (حتى هذا لا يطالب بالتمييز ضد المسيحيين وإن تناقضت ممارسته مع خطابه في بعض الأحيان)، وإنما لأن الحرب العبثية قد أصابت الجميع ومن قتل من السنة والشيعة، حتى بمنطق النسبة لعدد لسكان أكبر بكثير ممن قتل من المسيحيين. الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو المتعلق بردة فعل الشارع السوري على مثل هذا الموقف من طرف المسيحيين ودعمهم المباشر وغير المباشر للنظام، إذ سيؤدي بالضرورة إلى ردة فعل سيئة، لاسيما أن أحدا لم يطرح صيغة بديلة غير صيغة الدولة التعددية المدنية التي تستوعب كل مواطنيها وتمنحهم حقوقا متساوية. يستحق هذا الموقف مراجعة حقيقية من سائر الأقليات، لاسيما أن النظام لا يجد غضاضة في التورط في حرب أهلية دفاعا عن نفسه، وهي حرب لن يربح منها أحد لكن من يقفون إلى جانب النظام سيكونون أكبر الخاسرين من دون شك، بخاصة على الصعيد الأخلاقي. بقي مسألة الضمانات التي ينبغي أن تقدمها القوى الإسلامية، وفي مقدمتها الإخوان للأقليات بحسب ما يطالب البعض، والسؤال هو: هل لو خرج قادة الجماعة وأقسموا أغلظ الأيمان أنهم سيضعون جميع الأقليات على رؤوسهم بعد التحرر من الطاغوت سيغير الموقف؟ كلا بالتأكيد.