رشيد الخيُّون *نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية استهل العام 2011 بثورات مِنْ نوع آخر، فلا هي انقلابات عسكرية، ولا هي احتلالات عسكرية لإسقاط الحكومات -العراق 2003- كذلك لم تتصدرها أحزاب أيديولوجية شمولية، عبر تهييج المجتمع أو كفاح مسلح يبدأ بين الأدغال وينتهي بسلطة السِّلاح أيضاً، كما لم يكن شعار فلسطين حاضراً، مثلما عودتنا الثَّورات كافة بالمنطقة، ولا الموت للإمبريالية والاستعمار، إنما هي ثورات من أجل الخبز والعمل وصيحة ضد الغلاء وتفشي الفساد وترف السُّلطة وتأبيدها ما لا يتوافق مع شعار الدِّيمقراطية. أشعلها بتونس الشَّاب "بوعزيزي" بحرق نفسه لقضية تبدو للمحروم مثله مصيرية، وعلى قدرها كان مستوى تضحيته. بدأت بتونس وانتقلت إلى الجزائر وصنعاء والقاهرة، ويغلب على الظن أن بغداد مؤهلة لها. فالدِّيمقراطية ما غدت تستر العيوب وتحرس السُّلطة. فسلطة لا تحمي مواطنيها مِن الموت اليومي، ولا تمنع الفساد، وتصادر الحريات العامة، وتحجب المدنية بإدامة الخرافة باسم الدِّين لا يُرجى لها البقاء. إن أمهات التاريخ ملأى بأخبار الثَّورات، فكم مِن سلطان قُتل بيد جنده، وبتمرد عبيده، وكم مِن وزير أسقطه غلاء الأسعار ببغداد العباسية، وكم مِن ثائر حمل السَّيف وقاد الفلاحين والأُجراء، رافعاً راية الدين والعدالة، مثل ثورة الزنج بالبصرة (255 -270 ه)، أو القرامطة بسواد الكوفة (268 ه)، لكن ما أن يصل الثائر إلى السُّلطة حتى يتلفع بعباءة السلطة السابقة نفسها، وحدث بلا حرج عن الثورات المعاصرة. سنلفت النَّظر إلى موقف الفقهاء الرَّسمي مِن تلك الثورات، وليس لنا النَّظر فقط إلى صلة الفقيه بالسُّلطة، ومحاولة التضامن بينهما عبر التاريخ، بل النظر أيضاً إلى قلق الفقهاء مما قد يحدث بسقوط الحاكم، وغضب النَّاس وتمردهم الذي يخرج عادة عن الحدود، وذلك بوجود من يستغل الفراغ ويوجه الانتفاضة إلى النهب والتَّدمير، فتبدو الحالة فساداً أكثر ضرراً مِن وجود السُّلطة نفسها، ومَن يدري فربَّ قوى خفية تبث الشَّغب وتساعد على التدمير الثَّوري كي ينهار المشروع المطلبي السلمي. يتفق الفقهاء على ربط العُمران بالعدل والخراب بالظلم، منها: "السُلطان في الحقيقة هو الذي يعدل بين عباده (عباد الله)، ولا يقوم بالجَور والفساد، لأن السلطان الجائر مشؤوم، وأمره إلى زوال. وذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم" (الغزالي، نصيحة الملوك). و"المُلك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم" (المجلسي، بحار الأنوار). وترى مِن الفقهاء من قدم العدل على الإيمان، قال ابن طاووس (ت 664 ه): "تفضيل العادل الكافر على المُسلم الجائر" (ابن الطقطقي، الفخري...). وفي شأن مجاملة السلطة كان بين الإمام أبي حنيفة (ت 150 ه) وتلامذته اختلاف، ففيما لم يجاملها بقبول وظيفة القضاء نجد تلميذه أبا يوسف (ت 182 ه) أصبح قاضي القضاة، وكتب سانداً إلى أبي هريرة (ت 59ه): "إنما الإمام جُنَّة (كل ما وقى) يُقاتل من ورائه ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن أتى بغيره فعليه إثمه" (كتاب الخراج). وقال: "ليس مِن السُّنَّة أن تشهر السِّلاح على إمامك" (نفسه). وورد عن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 ه) فيما يتعلق برفض أصحابه لخلافة الواثق بالله (ت 232ه)، ما نصه: «عليكم بالنَّكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين» (الفرَّاء، الأحكام السُّلطانية). هذا ما رد به ابن حنبل عندما اجتمع إليه فقهاء بغداد، وقالوا له: "هذا أمر قد تفاقم وفشا- إظهار خلق القرآن- نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه" (نفسه). وترى ابن حنبل لم يدع إلى السَّيف ضد المأمون (ت 218 ه) مع ما يُنقل عنه من رأي فيه: "إذا ذكر المأمون قال: كان لا مأمون" (نفسه). وأورد ابن تيمية (ت 728ه) ما يمنع الخروج على السُّلطان: "كذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا رُوي: أن السُّلطان ظل الله في الأرض. ويُقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان. والتجربة تبين ذلك" (النجدي، مجموع فتاوى ابن تيمية). كذلك قال ابن تيمية في شأن محاربة الإمام الجائر في زمن الفتنة: "لهذا أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم، ما أقاموا الصَّلاة. وقال: أدوا حقوقهم، وسلوا الله حقوقكم". هذا ما يخص أئمة أهل السُّنَّة، مع أن أبا حنيفة أعان على الثورة بحدود إظهار العدل، لا الطَّمع بتولي السُّلطة، مثلما كان موقفه الإيجابي مِن ثورة الزَّيدية بقيادة محمد النَّفس الزَّكية (قُتل 145 ه). وتأثراً بتلك المواقف قال جميل صدقي الزَّهاوي (ت 1936) دفاعاً عن السُّلطان العثماني ضد الإخوان الوهابيين بنجد: "مَنْ كان يؤمن بالنَّبي محمدٍ.. وبما أتى من منزل القرآن... علم اليقين بأنه في دينه... وجبت عليه طاعة السُّلطان" (عزَّ الدِّين، الشعر العراقي الحديث...). أما بالنِّسبة لفقهاء الشِّيعة الإمامية - الزَّيدية والإسماعيلية اختاروا السَّيف- فهو الانتظار، حيث إعلان الغيبة الكبرى (329 ه) فالإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر هو صاحب الشَّرعية وعند خروجه سيتولى الأمر، وهنا يتفق الفقهاء مِن المذهبين، السُّنَّة والشِّيعة، في تصورهما حول الثَّورة ضد السُّلطان مع اختلاف الفكرة، بالصَّبر عليه، إذا كان فساد سقوطه أكثر مِن وجوده، وبالانتظار. كلُّ ما طُرح كان ضد رفع السَّيف، وحساب الضرر، لكن ما استجد في الثورات المشتعلة كونها ثورات مطلبية سلمية، امتصت السُّلطات غضب النَّاس عبر الانتخابات كمهدئات ومناسبات لتجديد التعهدات، لكن طفح الكيل ولم يجد بوعزيزي أمامه سوى الاحتجاج بالموت حرقاً. هذا ومازالت الثورات مستعرة وتتنقل بين العواصم، حتى هذه السَّاعة، عواصم تزخر بالمؤسسات الفقهية، حيث الزَّيتونة بتونس، والأزهر بمصر، والمؤسسة الدِّينية التقليدية بصنعاء، وحتى هذه اللحظة لم يُسمع عن هذه المؤسسات كلمة احتجاج أو تقييم أو تهدئة! ليس مِن باب إقحام الدِّين في السِّياسة إنما لحماية الدِّين مِن السِّياسة، حتى لا تُستغل الثَّورات مِن قبل التَّطرف الدِّيني، أو ينحرف الغضب إلى التدمير، أو خلق بدلاء، فهناك مَنْ ينتظر أن "يركب الشَّعبَ إلى الحكم مطية"!