بادئ ذي بدء ، ودون ولوج خضم التعريفات اللغوية والشرعية ، يمكن القول أن الجهاد في اللغة هو : بذل الجهد والطاقة والمشقة في سبيل الله . أما في الشرع ، فقد عرفه العلامة ، ابن تيمية ، \"رحمه الله\" بقوله أن : ( الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان ) \" مجموع الفتاوى \" (10/191-192 ) وأقسامه : 1 – جهاد سلمي ضد الطغاة المستبدين ، 2 – جهاد عسكري ضد الغزاة المعتدين ، كما أن له عدة مراتب ، أفضلها ، وأجلها : جهاد الجور والطغيان ، بالكلمة والبيان ، ثم يعقبه جهاد الكفار ، كما هو واضح وجلي في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : ( إن من أَعظم الجهاد كلمة عدل – حق - عند سلطان جائر ) رواه النسائي، وقال المنذري : إسناده صحيح ، فوصف النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الجهاد هو جهاد الكلمة عند المسؤول الجائر ، ويوضح أن للجهاد ، مراتب ، ويكشف أعظمها ، بأنه الجهاد السلمي للطغيان والاستبداد ، لما للطغيان والاستبداد من أثر في تدمير شخصية الفرد ، والمجتمع المسلم ، فكأن لسان حاله يتساءل ويقول : كيف يستطيع المجتمع المسلم مجابهة العدو الكافر ، وهو لم يقاوم ، بداية ، المسؤول الجائر الظالم ؟ الذي اسقط الحقوق ، وانتهك الكرامة ، وسلب الحرية ،لذلك حرص على تحديد جهاد المسؤول بسبب الجور والطغيان ، لا بسبب تخلفهم ، مثلاً عن صلاة الجماعة ،أو بسبب رفضهم عمارة المساجد ، أو بسبب ممارستهم للمعاصي الروحية ،بل حدد السبب بالجور – الظلم - وهو منافي للعدل . وبما أن الجهاد السلمي يهدف إلى مقاومة انهيار الأمة ، وانحرافها ، من جور المسؤولين وظلمهم ،الذي يؤدي حتما إلى الاستبداد ، والذي يؤدى بدوره إلى الاستعباد والاضطهاد ، ويتولد عن ذلك قتل الحرية والحيوية في الأمة ، فتصاب الإرادة بالشلل ، وتفسد الإدارة ، وتدب معاول الخراب في الاقتصاد ، فيحدث الانهيار الذي نخافه ونخشاه من العدو الخارجي المتربص ، إذا ما حربنا إياه ،لذلك شرع الجهاد المدني الداخلي قبل الجهاد العسكري الخارجي . والتساؤل الملح دوماً : أين العلماء والمشايخ والفقهاء الذين تسابقوا لتصدير شبابنا للجهاد في بلاد الأفغان ،عن فضل الجهاد السلمي أمام الجور والطغيان ؟ ، لماذا غاب عن أذهانهم فضل جهاد المسؤول بالكلمة والبرهان ، قبل جهاد الكفار بالحسام ؟ ،ألم يسمعوا ، أو يتدبروا قول المصطفى صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب , ورجل قام في وجه سلطان جائر , فأمره ونهاه فقتله ) لماذا يحثون شبابنا ، المشتاق للجنان ، ونيل الشهادة ، بالقتال ضد الكفر والإلحاد ، ويتجاهلون ، عمداً ، الجهاد الأعظم خيرا، والأفضل منفعة : آلا وهو الجهاد المدني الذي فيه تتحقق الآمال ، وتشيد فيه الصروح والبنيان ، ويقوم عليه الدين والإنسان ، فالأحاديث ، ذات العلاقة والصلة ، تدعوا للجهاد المدني السلمي ، وتحث على المبادرة في التصدي للجور والطغيان ، وتصف الجهاد بأنه أمر بالعدل ، ونهي عن الظلم ، كما أن النصوص تفوض كل فرد مسلم ، وتعطيه كامل الأحقية في ذلك الجهاد ، ويستخلص هذا الحكم من \" تنكير \" كلمة \" رجل \" في الحديثين السابقين ، فهي لم تخصص الكبير ، ولا العالم أو الفقيه ، ولا المسئول أو الأمير ، بل هي موجه لكل من يطلب الشهادة في سبيل الله ،لذلك عند ما يمعن الناظر والمتأمل لمجريات الأحداث الراهنة ، يجد أن كل التوجيه من ذوى النفوذ والسلطان والمصلحة ، منصب ، عمداً ، فقط ، على جهاد الكفار ، مع تعطيل تام لجهاد الظلم والاستكبار ، الذي بسببه ، وتداعياته ، سيطر الكفار على مقدرات الأمة والشعوب . فالحاكم المستبد ، يظلم ، ويسرق وينهب ، ويسجن ، فلا يجد من يقف في وجهه منكراً ، أو مستنكراً ، بل يجد من يفتي له ، أو يبرر له ، بل يوفر له الغطاء والإسناد ، بدعوى أن للسلطان حرمة ومكانة في الإسلام ، وهذا فى حقيقة الأمر ، والله ، كذب صريح ، ودجل فاضح ، يسوقه المنتفعون من ظلم الحاكم وفساده ، أو من بسطاء القوم الذين لا يعون الواقع ، ولا يعرفون الوقائع ، فالإسلام دين عدل وحق وحرية ورحمة ، لا دين استبداد واستعباد لفرد أو لجماعة ، قال تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله أولياء ، ثم لا تنصرون ) وقال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . ) فأي ظلم ، وأي معصية ، وأي اعتداء وأي منكرا أعظم من سلب الحرية ، وانتهاك الكرامة ، وسرقة المال العام ، ونهب مقدرات الأمة ، وسجن الشرفاء بلا تهمة ، أو بلا محاكمة عادلة منصفة ، تستلهم جوهر الدين الحنيف ، وقواعد العدالة والإنصاف . كما أن المتأمل لحديث المهدي المنتظر إن سلمنا جدلاً بصحته : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم ، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني ، أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ) ولهذا نجده يركز مجيئه بسبب الفساد والإخلال بالشق المدني من عدل وقسط ، لا بالشق التعبدي الروحي ، لأن تعطيل الشق المدني يشل العقيدة ، ويعيق الفكر الديني ، ويصيبه بالجمود ، كما هي حالنا اليوم ،فحري بشباب الإسلام المخدر بتصوف روحي تعبدي ، حيث يكتفي ، فقط ، بالدعاء والتحسب والرجاء ،أو المشحون بالصدام والعنف والتدمير الذي اضعف الأمة ، وفتت اللحمة ،أن يشقوا طريق السلم بجهاد الطغيان بالكلمة والبيان ، فالجسم العليل ليس بمقدوره مقاومة الفيروسات والميكروبات الخارجية ، ما لم يتعافى ، بداية ، جسده من الداخل ،فلا يمكن إقامة محراب العبادة ، قبل نصب ميزان العدل ، ولا يمكن الدعوة إلى الله قبل إيجاد الشورى والحرية . والقول الخاتم ، يكمن في فقه الأولويات الملحة للأمة وفلاحها ، وحسن تشخيص الداء ، توطئة للدواء الناجع ، وهو مقاومة كل تجليات الفساد والاستبداد ، بكافة صورها ورموزها ، كنقطة انطلاق حقيقية لإصلاح أحوال الأمة ، وتدبر الدعوة ومقاصد الثورة ، السلمية ، على كل سلطان جائر وظالم وفاسد ، يتعمد الانحراف عن صحيح الدين وغاياته ، وظلم العباد ، وغياب التوزيع العادل للثروة والسلطة الكفيلة بمنعة الأمة ونهضتها وتقدمها ، كما تدلل خبرة الدولة الإسلامية الأولى ، والتي انتشرت ، بالعدل وجوهر الدين الحنيف في كافة أنحاء المعمورة ، أما خلاف ذلك ، فهو تصويب خارج دائرة الهدف . محمد صالح البجادي [email protected]