بين العرض الذي قدمه زكي فارسي قبل عامين في غرفة جدة شاكياً وباكياً ومستجدياً إنقاذ جدة وعشرات القتلى وآلاف المتضررين، وشرخ موجع انغرس في وجدان سكان جدة. لم يكن مساء رمضاني عادي الذي قال فيه "زكي" إنني أستجديكم أن تنظروا لجدة نظرة الشفقة، بل كان مساء قادماً من عوالم غيبية أرادت أن تضع اللوم علينا، وأن تعطينا الفرصة الأخيرة لإنقاذ مدينة قدرها أن تعيش في زمننا هذا. لم يكن زكي فارسي يعلم أن الموت كامن محبوس هناك في زوايا جدة الخلفية، مقيد في انتظار غيمة سوداء يصعد فوقها قادماً "بهامة" الموت لينشرها في أوقاتها وأحيائها وبين ضلوع أحبائها ويبعثر ما تبقى من مجدها "التليد". لعلَّّ "الفارسي" يقول الآن: ليت قومي استمعوا لي فها هو الموت والمطر، والحزن يزورنا مرة أخرى، بعدما استضفناه في سيول قويزة بعدها بشهرين - بصدر رحب - لقد قال أيضاً لتركي الدخيل الذي استضافه في برنامجه إضاءات: "يا تركي الكارثة ليس في ما حصل بل الخطر في أن السيول القادمة إذا تجاوزت طريق الحرمين واندفعت باتجاه الأحياء.. باتجاه جدة"، وكان ما حصل، لقد حذر مرتين ولكن.. يا الله كيف قال ذلك زكي فارسي ولم يستمع إليه أحد، فها هو سيل الأربعاء الجديد يغدر جدة ويتجه نحو "الأحياء" ليقلّها نحو الموت، جاء المطر بغيضاً، دخل في الزواريب والطرقات والأزقّة دون أن يستأذن أحداً. بالأمس بات أطفال في الخامسة والسابعة وربما العاشرة من أعمارهم بعيداً عن أحضان أمهاتهم، بالأمس باتت طالبات في أحضان فصولهن الدراسية بدون أسرهنّ، ربما لأول مرة يواجهن الحياة وجهاً لوجه... بل ربما لأول مرة يواجهن الموت فرادى... أقسم بالله لكم أن التبريرات ستكون كالتالي: الأمانة ستؤكد أنها طالبت وزارة المالية بالمشاريع... وسيقول مسؤول وزارة المالية لقد أرسلنا الأموال ولم تستخدمها الأمانة، ثم ستعقّب الأمانة لقد طلبنا الأموال ولم ترسل المالية إلا 20 % منها. وسيطالب المسؤولون بعدم الإثارة في الصحف، وربما يطلب عدم ذكر أرقام المتوفين، ومن الكتّاب عدم الخوض في "الأمطار" وقصصها المريرة، وسيأتي من يقول إنكم متشائمون ومحبطون وتغريبيون وعلمانيون وليبراليون ومذنبون! وسيقول البعض إنكم مستعجلون، ترووا... قليلاً من الصبر.. فالأمور لا تأتي في يوم وليلة، لأن المشاريع تحتاج إلى سنوات لانجازها، انظروا ألا ترون الشوارع مفتوحة على "مصراعيها للمشاريع"... بالتأكيد المشاريع قائمة لكنها لا تنتهي، والحفر لا تُردم، والطرق تسدّ النفس. عن أي ذنب يتكلمون وعن أي إحباط يعيشه أهالي جدة، على العكس من ذلك، فشاطئ البحر الذي يسبح فيه أهلها لا يتجاوز 200 متر من 75 كلم! وحدائقها الصغيرة مُنحت لنافذين، والمساجد، وشركات الاتصالات، والبقيّة أُجّرت لمصاصي الأموال، وشوارعها ليست سوى ندوب في وجه أي مدينة متحضّرة، ومستشفاها يئنُّ من ضغط المرضى عليه، والمستشفى الجديد لا يزال في عثرات المقاول ورطوبة المحاسبة التي لانت حتى تميعت. ستخرج التبريرات من جيوب الموظفين ومن ورائهم المسؤولين، قائلة إن "المطرة" تتجاوز 120 ملم، وهي في المقاييس العالمية لا يمكن استيعابها أو الوقوف أمامها... إذاً مطر ماليزيا المنهمر ليل نهار إلى كم ملم يصل؟ ومطر الهند ومطر بيروت وعمان وصنعاء كم يبلغ، هل هو أقل من ميلي لتراتنا اليتيمة التي تأتي في العام مرتين! وسيقول المسؤولون في جدة لم نفاجأ... ثم سيقولون لا عذر لنا اليوم... ثم سيشيّدون ويشكرون. ثم سيتقدم المجتمع المدني للتطوع... وسيأتي متشددون لتفريق النساء عن الرجال، وسيقفون على مداخل الأحياء لمنع البنات من إغاثة الأسر والمحتجزين والفقراء. سيأتي الكثير من محترفي الاختطاف... لسرقة الإغاثة... وعرق الشباب والبنات الذين بدأوا بالأمس قبل أن يفيق الكثير من غيبوبة التصريحات والتلميحات. سترسل برقيات الاحتساب والاحتجاجات... خوفاً على العفة والأخلاق الموهومة، وسيأتي من يجامل الأقلية على حساب البسطاء المشروخين من ألم الفجيعة، أناس مشغولون بدفن الموتى واستقبال الحياة ومتطفلين يغيظون جدة بالوصاية وفرض أفكار "المجاملة". صدقوني لا يفيد أن أكتب عن الأمانة ولا عن فرق الإنقاذ والإغاثة ولا عن وزارة المالية، فقد كتب الكثير وغضبنا وصرخنا، ووضعت أصواتنا جميعاً في "آلة تمزيق الورق"، لكن قدر جدة أن يبقى الموت حاضراً في النفوس والرعب مستوطناً في عيون الأطفال. * كاتب سعودي.