محمد عبد الله الهويمل - الجزيرة السعودية الأستاذ إبراهيم البليهي من الأسماء الثقافية التي صعدت باكرا إلى واجهة الصحافة والثقافة السعودية وأثرى المشهد والمتحول السعودي بالعديد من المشاركات المعنية بكشف العيوب العقلية والأنساق وبأعلى نبرات الغيرة والتوتر من أجل مجتمعه وأمته. وجايله الكثير من النقاد والمثقفين ودشنوا سويا مشروعا متوترا وحديثا للتفكير. واستمرت الحالة المنفعلة ساعة كتابة هذا المقال وأخص الأستاذ البليهي الذي بقي على أدواته ذاتها في مواجهة ما سماه بالتخلف بل انفرد عن جيله بحماسه البالغ في كشف معوقات التحضر، وابتكارها من العدم أحيانا. تنتظم الأستاذ البليهي سيكيولوجية بالغة الخصوصية تدير جهازه العصبي المتصل بميكانيكية تفكيره التي أسست لعلاقة قلقة بمحيطه السعودي والعربي قائمة على ثنائية المتهِم والمتهم أو المحقق الجنائي والمشبوه فانطبعت هذه الثنائية في أدائه النقدي وصارت سمه أساسية في نمطه ومكونا فاعلا في فطرته التي فطر نفسه عليها. فهو لا يرى نصف الكأس المملوء ولا النصف الفارغ بل ولا يرى كأسا من أصله. فتحول من مثقف متوتر إلى متوتر فقط، فتحول جمهوره من مستمعين لمثقف إلى متفرجين على مشهد نادر لدراما صاخبة وتراجيديا بكائية ترثي الميت والمشيعين. واستمر الأستاذ البليهي على هذا النحو وكرسه أكثر في مساحات صحفية شاسعة. يعمل دون كلل في إضعاف غير متعمد لهوية الأمة ومعنوياتها وضرب مفاصلها والحط من محاولاتها والتبخيس من قدراتها وطموحاتها وتعطيل تنميتها والإعلان المبكر عن وفاة مواليدها وكأنه سمسار لباعة الأكفان في فواصل تراجيدية لا يسعها إلا مسارح مهرجانات الفنون إذ لم يعد لهذا الطرح غير التقدمي أي حيز لدى المساحة السعودية المتجهه بهدوء وقوة نحو المنافسة وتوسيع المشتركات العلمية مع الآخر. البليهي لايعرف حتى الساعة أن أساتذة الجامعات السعودية قبلة للمتعلمين من الدول المجاورة وأن السعوديين والعرب يحققون إنجازات علمية قليلة لكنها طموحة وتحتاج إلى دعم معنوي ومادي لمواصلة الإبداع والعطاء غير أن الأستاذ البليهي يتربص بكل محاولة عربية للمنافسة العلمية ويتهمها بالفشل ليعيدها إلى مربعها الأول فقط ليحقق نظريته في استحالة تقدم هذه المجتمعات. المبهج في هذ السياق أن كثيرا من المثقفين انصرفوا عن البليهي واشتغلوا للإصلاح الحقيقي البعيد عن هذا الخطاب القبوري إلى فسح إمكانات التنمية ليقين الكثير منهم أن التنمية لاعلاقة لها بالنظرية الفكرية أو الفلسفية بل بالمنجز المادي البحت المتمثل بالطب والهندسة وتوطين التقنية ودفع الأكاديمية العلمية التجربية لتحل مكان المثقف الفكري. بل إن سيطرة المثقف على المنابر الصحافية باتت من معطلات التنمية وأن التعامل مع التقنية الحديثة الجافة لا تحتاج إلى فكر نظري يديرها بل إلى إنسان سليم العقل يشغلها لتقديم الفائدة العلمية للمستخدم. وغير هذا عودة مقنعة إلى عصر الخرافة. إن الأستاذ البليهي يعز عليه الاعتراف بأن التنمية وثورة التقنية ورفاه الإنسان كلها خارج التعقيد النظري الذي نذر حياته له وعليه فالبليهي سيجد نفسه خارج التقدم إذا لم يبذل أسبابه ويكون جزءا من المتحول التحديثي دون افتعال أي ربط خرافي بين الفلسفي والتقدمي لأن التفلسف الآن خارج الحاجة الإنسانية وبالتالي خارج ضروريات التطور، غير ما يمكن نقاشه والانسجام مع البليهي فيه ومع غيره هو التلقائية السلوكية الإيجابية والاستجابة الحميمية للمثل المنتجة للقوانين الضابطة للسلوك وهذا لا يحتاج إلا إلى تفعيل النص الأخلاقي الإسلامي دون الحاجة إلى نظريات المثل اليونانية وغيرها لا سيما أنها داعية في مجملها إلى مثاليات الإسلام. إن تفعيل السلوكيات الراقية المتوافرة في النص الإسلامي هي فاتحة جليلة لمزيد من تعديل الأنماط في التفكير والإنتاج والإحساس بالمسؤولية تجاه الذات والآخر بل هي ما يحقق مزيد من التواصل مع الآخرين وما أسهلها، على خلاف ما يطرحه البليهي من صعوبة التفاهم ونقل الأفكار في الوقت الذي يصف فيه المثقف الحديث العالم بالقرية الصغيرة، وهذا ما قد يحرج النعاة ودعاة تحقير الأمة الذي يشترطون أن تكون خاضعاً للغة القرية الصغيرة وثقافتها وربما شعرها الأصفر وعيونها الزرقاء وما دام شعرك أسود فأنت خارج عملية تبادل الأفكار. والأزمة الأخرى لدى الأستاذ البليهي أنه لا يطرح أي حل إجرائي للتجاوز هذه السلبيات لأن برنامج الحل يقتضي أولاً البحث في إمكانيته، وهو لم يعالِج هذه الإمكانية ليأسه (واليأس درجته من درجة الكسل) أو لعدم رغبته أو لعجزه عن العلاج لتعقيده الذهني أي ( ماله خلق )على هذا التعب. إن الأستاذ البليهي مستمتع بهذا الترف والكسل الذهني الذي يحسم القضايا المهمة في بدايتها على عكس الإصلاحيين الجادين الذين يعملون بجد وتفاؤل وإجهاد بالغ لقريحة المبدع المنتج دون الركون إلى كسليات اليأس والاستحالات التي يتبناها البليهي ونفر قليل من الكتاب السعوديين الذين لا زالوا يجترون تخريفات طه حسين الكوميدية العابثة. إن تطور المجتمع العلمي يحتاج إلى دعم سياسي ورعاية اجتماعية وتأييد ديني وتوجيه دقيق من خبراء التنمية ومن ثَمّ فلا حيز ضروري لنقاد الأنساق والبكائين على ابن رشد ومشروعه الإصلاحي العالة على الإنسان الجديد. إن تطوير المجتمع قضية غير معقدة وأسهل من هذا التوتر النظري الضاج المفتعل والمجتمع السعودي مهيأ للتحديث لتحقق الانسجام بين السياسي والديني والاجتماعي. واختراع أي تناقضات واهمة معوق لاسيما من يرون أن التنمية لا تسير إلا في قنواتهم في حين أن التقدم كائن حيّ يمشي علي أرجل في كل الاتجاهات وكل الطقوس والأزمنة. إن المؤسف أن بعض المثقفين الصاخبين لا يستطيعون الإبقاء على تميزهم اجتماعياً إلا بتسويق رهاب التخلف في مجتمعهم نظرياً وتثبيطهم إزاء التقدم لئلا يفقدوا مكانتهم ساعة يكونون ضمن مجتمع متعلم ومتحضر وأرجو ألا يكون الأستاذ البليهي منهم. إذا استمر الأستاذ البليهي على بكائياته فليتلطف بأن يترجل عن مساحته الصحافية لأحد خبراء التنمية الفاعلين في تحضرالمجتمع واستثمار الذهن الجمعي السعودي وليس إرهاقه بتساؤلات لا طائل وراءها. فائدة: أهدرت الخنساء شطراً من حياتها في رثاء أخيها صخر، وفور ما كفت عن بكائياتها أبدعت أربعة من الأولاد استشهدوا في فتوحات غيرت العالم.