فاتحة: قلت لأخي الروائي مطلق البلوي - صاحب رواية “لا أحد في تبوك” الصادرة عن دار الانتشار العربي ونادي حائل الأدبي عام 2008م. قلت له: وأنا أغادر تبوك: بعد اليوم - لا تقل “لا أحد في تبوك” الكل اليوم في تبوك، نخبة المثقفين اليوم ولمدة ثلاثة أيام كلهم في تبوك.. أنتم جيل الثقافة الصاعد، نور تبوك وبسمتها وجيلها القادم!! *** (1) وأنا أدلف إلى تبوك/ الحاضر تراءت لي من فضاء التاريخ الحضارات التي سادت هذه المنطقة فترة من الزمن ثم بادت، تراءت لي حقيقة التدافع والتداول الحضاري التي مرت بها هذه المنطقة حتى وصلت إلى العهد السعودي الحديث والمعاصر، تراءت لي كتابات المستشرقين والرحالة الأجانب الذين سبروا غور هذه المنطقة درسًا وتأليفًا، تراءت لي أخيرًا رواية إبراهيم عبدالمجيد «البلدة الأخرى»!! *** (2) تراءت لي تبوك المعاصرة / المدينة الصاعدة في أفق التنمية والتقدم حيث التعليم الأهلي المتميز في مدارس الملك عبدالعزيز الأهلية، وجامعة الأمير فهد بن سلطان الأهلية وجامعة تبوك، والمؤسسات والإدارات الحكومية والأهلية التي تبشر بغدٍ وثّاب ومتطلع للتقدم والتنمية في ظل حكومتنا الرشيدة الداعمة وجهود أمير المنطقة المحبوب الشاب فهد بن سلطان. تراءى لي النادي الأدبي ورجاله المخلصين الدكتور مسعد العطوي والدكتور موسى العبيدان ورفاقهما المؤمنين بجدلية التنامي الثقافي وضرورة الخروج من شرنقة العادات إلى أفق التحديث والتعاطي مع المنجز الثقافي الوطني دون التحيز لفئة الصحويين أو التقدميين وإنما الوسطية التي تفضي إلى غدٍ ثقافي تذعن له العقلية الثقافية ويفيد منه المثقفون في هذه المنطقة. *** (3) وانعقد اللقاء الثقافي بحضور ثلة مباركة من رجال الثقافة والفكر من أنحاء بلادنا المعمورة والمقيمين بيننا من البلدان المجاورة، وعبر أيام ثلاثة تلاقح الفكر وتعاطينا حداثة الثقافة وامتزجنا في حوار صاخب ومتوازن حول موضوع الخطاب الثقافي العربي وتحدياته الراهنة والمستقبلية، وانطبع في الذهن والذاكرة. كم نحن محظوظون بهذه الرموز الثقافية التي تثبت تواجدها المعرفي في كل محفل، وتقدم عطاءها الفكري وجهدها الثقافي عبر أوراق العمل التي قدمت أو المناقشات والمداخلات، أو جلسات الحوار على هامش الملتقى والتي كان فيها لأبناء تبوك ومثقفيها فضل التخطيط والتنظيم وإتاحة الوقت للاستفادة من هذه الرموز الثقافية التي وفدت إلى منطقتهم (تبوك) وتبادلوا معهم الحوار والنقاش في مسائل الخطاب الثقافي السعودي الراهن وما يلقي بظلاله مناطقيًا، ونصيب المراكز والأطراف من هذه الثنائية الجدلية بحيث أيقنا جميعًا بتبادل الجهات وتنامي الاتجاهات فلا مراكز ولا أطراف وكل المناطق على حد سواء تقدم الثقافة وتستقبلها في بُعد وطني موحد ومنسجم فلا نجد الفرق بين تبوك ثقافيًا وجازان مثلاً، ولا بين تبوك والرياض مثلاً، فالكل له دوره الثقافي الذي يجسد وحدتنا الوطنية، ويجلي هويتنا الثقافية في تكامل وشمولية. *** (4) فمن الأوراق المتميزة التي قُدِّمت في الملتقى واستفزت ذاكرة التحليل والتأويل والتداخل المعرفي، ورقة الدكتور فهد العرابي الحارثي الموسومة ب: «سؤال السيطرة على المستقبل» والتي وجدت فيها كثيرًا من التباكي على الأمة العربية والإسلامية وأنها لم تُقدِّم للبشرية أي تمدين أو تَقدُّم وإنما هي أمة تابعة مسلوبة وتفوقها اليايان ودول الغرب وإسرائيل، وأن السيطرة على المستقبل يكمن في بناء عناصر القوة من حيث تنشئة الأجيال القادرة على حماية الأرض والثروة بالتعليم وحب العمل. وهذا الكلام في مجمله ليس صحيحًا بالكلية - كما قلت في مداخلتي - فالأمة العربية والإسلامية كان ولازال لها دور مشرف ومشرق، فقد قدمت للإنسانية نماذج تاريخية وإسهامات معرفية تتلمذ عليها الغرب واستفاد منها المستشرقون وإن تخلف العرب اليوم فهذه هي الدورة الحضارية التي أنبأنا عنها المفكر الإسلامي ابن خلدون. كما قلت في مداخلتي: إن أطروحة الدكتور العرابي تتقاطع مع مقولات إبراهيم البليهي وفي هذا تحامل على الأمة العربية والإسلامية، وأن العروبة قدرنا وليست مكتسبة ولا يمكن التخلص من هذه القدرية لنصبح أمة كونية أخرى. كما قلت إننا نجلد الذات كثيرًا وهذا لا يخدم قضيتنا ولا يطور أمتنا وإنما الواجب على النُّخَب الثقافية أن تحيي الشعور باليقظة في الأمة وتطلق الطاقات الكامنة وتبحث عن الإيجابيات والمكتسبات لبناء المجتمع القادم والسيطرة بشكل إيماني/ محلي على المستقبل إن شاء الله. ومن الأوراق المتميزة أيضًا، ورقة الشيخ محمد الدحيم المعنونة ب: «العنف في الخطاب الفكري» والذي أشار فيها إلى ثلاثية التكون أو التشكل الفكري وأن الواجب أن تكون قراءتنا للمستقبل أكثر من قراءتنا للتاريخ لأننا بذلك ننتج فكرًا تسامحيًا وسطيًا فيه التعايش والحوار البنَّاء. وهذه الفكرة بحد ذاتها هي التي استوقفتني للمداخلة معها، فأي مستقبل نقرأه دون المرور على التاريخ؟! لذلك أعتقد - وأنا من حزب المؤرخين - أن أي قراءة للمستقبل لابد وأن تأخذ في اعتبارها أن التاريخ هو الجسر بين الحاضر والمستقبل ولابد من العودة إليه فقيه الفكر والتدبر والوعي الذي سيشكل رؤيتنا المستقبلية، علمًا بأن الفكر ليس طبعًا في الإنسان يخلق معه، وإنما هو تعلم واكتساب وتشيؤ يجتهد في بلورته المفكر داخل الأنساق الثقافية والمعرفية. ومن البحوث والأوراق الهامة والتي أحدثت جدلاً وفاعلية تثاقفية ورقة الزميل الدكتور زيد الفيصل والتي جاءت معنونة ب: «العنف في الخطاب الفكري وتداعياته» والتي شرَّق فيها وغرَّب منطلقًا من قوله تعالى: {لا إكراه في الدين.....} وكأنه يسوق لفكرة الحرية في الدين أو الحرية الدينية في الدولة الإسلامية متناسيًا مآلات المرتد والمرتدين في شريعة الإسلام. كما ركز على مصطلح العنف الديني وأنا أقول إن الدين الإسلامي ليس دين العنف بل هو دين الرحمة والتسامح والتعايش والوسطية وإنما العنف يأتي من أهل الدين الذين سماهم الشيخ حسن أيوب - رحمه الله - المتمسلمين، وأنا أسميهم المتدينين، وأكد عليها الشيخ الدحيم في ورقته السابقة. كما تعرض الدكتور الفضيل إلى العنف الفكري والسياسي الذي قاد إلى مقتل (الجعد) على يد (القسري) أحد ولاة الأمويين وكأنه يشير إلى أن الحكم الأموي كان يمارس عنفًا سياسيًا فكريًا، وأنا أرى - وقد قلت ذلك في مداخلتي معه - أن التاريخ الأموي ظُلِم في كثير مما كتب عنه فهو مكتوب بيد الدولة المنتصرة التي حكمت بعده ولذلك ينبغي قراءة التاريخ الأموي بحذر. أما قصة الجعد والقسري فأعتقد أنه لابد أن تقرأ في سياقها الديني والتاريخي دون إسقاطات سياسية أو فكرية معاصرة مع إدراك لمعالجات الحكم الشرعي في الدولة الإسلامية الأموية، مما يجعل النقاش حولها منطقيًا ومعقولاً. وأما ورقة الدكتور أسامة البحيري المعنونة ب: «نماذج من خطاب الأنثى في التراث العربي»، تبدو المنهجية والموضوعية العلمية في تناوله لهذا الموضوع. وقد عرف الخطاب بأنه منظومة معرفية يتداولها الأفراد، وتَحدَّث عن التذكير والتأنيث في الخطاب القرآني. وهنا أقول لأستاذنا العزيز إن القرآن نص إلهي أما التراث فنص بشري، وهذا يجعل التعاطي مع النص القرآني في قدسية تامة بينما التعاطي مع النص البشري فهو قابل للأخذ والقبول والرد. كما قلت له في مداخلتي إن خطاب الأنثى يعني - فيما أفهم - كل ما كتب عن الأنثى، وفي معنى آخر، كل ما كتبته الأنثى وهنا تختلف المسألة بين هذه وتلك وبالتالي يختلف التحليل والتأويل!! وأما ورقة الدكتور مرزوق بن تنباك والتي كانت حول المفكر العربي السعودي إبراهيم البليهي وخطابه النقدي، ففيها الكثير من الإشكالات على مستوى العنوان، فالبليهي مفكر وناقد في المجال العقلي والفكري وليس في المجال الأدبي!! وطروحاته تتقاطع مع طروحات محمد عابد الجابري - رحمه الله - ولكنه مسرف على نفسه وعلى مجتمعه إذ عرّى العرب والعروبة من العقل التقدمي وجعلهم أصحاب جهالة ورجعية، وفي هذا ما فيه من جلد الذات العربية والمبالغة في التغريب مما جعلني أطرح على ابن تنباك تساؤلاً لا أدّعي فيه الطهر والبراءة، فالبليهي من بيئة قصيمية خرَّجت من العلماء والمفكرين ما يشي بتناقظهم المعرفي والتكويني، فهذا عبدالله القصيمي - رحمه الله -، وهذا منصور النقيدان، وهذا إبراهيم البليهي وكلهم يتباينون في طروحاتهم الفكرية، وفي الطرف المقابل نجد الشيخ ابن عثيمين وابن سعدي - رحمهما الله - وغيرهم كثير من جماعة المدرسة السلفية المعتدلة، وما هو السبب في هذه التباينات؟ وهل للبيئة القصيمية دور في ذلك؟ وأما ورقة الدكتور ظافر الشهري حول «الخطاب السعودي وإشكالية المصطلح» فقد اعترض على الخلافات التي تسود المجتمع المثقف في السعودية مما يجعل الخطاب الثقافي السعودي في صراع وتأزم، وهو بذلك يرى أن الاختلاف أمر غير محمود ويجعل المصطلح أمام إشكالية معرفية وتطبيقية، مع أني أرى - كما قلت في مداخلتي آنذاك - أن الاختلاف سنة كونية وطبيعية، ولابد منها من أجل التثاقف والمدارسة وأن عدم القابلية والامتزاج الثقافي شيء لابد منه في ظل نظرية التدافع والتداول الثقافي التي اقترحتها ذات قراءة معرفية!! وأما الأوراق التي ناقشت محور الخطاب التربوي فتجيء في طليعتها ورقة الدكتور صالح أبو عراد الشهري والذي حاول في ورقته «أسلمة الخطاب التربوي من حيث بث الفكر والطروحات الإسلامية التي توجه الناشئة نحو مزيد من التعمق في السلوكيات الإسلامية كنتائج للخطاب التربوي». ولما كان تعريفه للخطاب: «مجموعة الرؤى والطروحات الفكرية التربوية»، فقد اقترحت عليه في مداخلتي أن لا تكون أسلمة الخطاب التربوي بشكل مباشر فقد تؤدي المباشرة إلى عدم الامتزاج والقابلية وإنما أقترح أن تدرس مجمل الكتابات والطروحات التربوية لنتعرف على ملامح الخطاب فيها، ومن خلال ذلك يبث ويوجه ويصحح المسار التربوي وفق منطلقات إسلامية. ثم ورقة الأستاذ علي العريفي الذي تحدث - على استحياء - عن «مخرجات التعليم العام في المؤسسات التعليمية والهشاشة التي تكون عليها تلك المخرجات وشكاوى الجامعات منها والشكوى المتبادلة من التعليم العام عن مخرجات النظام الجامعي {هذه بضاعتكم رُدّت إليكم}»، ثم دخل في توجيهات مستقبلية «ينبغي، لابد، يجب» وكنت أتمنى لو حلل الداخل التعليمي والتربوي من خلال المقرر والعلم والنشاط والمبنى وكل البيئة التربوية لنتعرف على الواقع كما هو ثم نطرح آليات التحسين والتطوير. وثالث هذه الأوراق التربوية ورقة الدكتورة مريم الأحمدي «هندسة المناهج التعليمية والخطاب التربوي» والذي ركزت فيه على توجهات الوزارة التربوية لإعداد مناهج وفق المنهج التكاملي. وكأني بها قد خلطت بين مفهوم المنهج ومفهوم المقرر الدراسي متناسية ما وصلت إليه المقررات الحديثة في العلوم والرياضيات والمنهج الشامل، ومناهج نظام المقررات التي تعتبر أحدث تطوير في وزارة التربية والتعليم. وأخيرًا نقف على الأوراق العلمية التي قدمتها نون النسوة في القاعة النسائية عبر الدائرة التلفزيونية والتي كان من أهمها وأبرزها ورقة الدكتورة عزيزة المانع بعنوان: «الخطاب الثقافي في المملكة العربية السعودية» وقد أشاد بها جمع من المشاركين ولكني لم أحظ بالمتابعة لانشغالي بالتحضير لورقة العمل التي شاركت بها في نفس الجلسة التي كانت فيها الدكتورة المانع. أما ورقة عائشة الشمري عن «تغريب الخطاب الثقافي في الإعلام العربي» فقد كانت ورقة متميزة تنحو إلى نقد الخطاب التغريبي الذي يقوده الإعلام وتنادي بأسلمة المنتج الإعلامي ليتواكب مع الطرح الثقافي المتزن والمقبول إسلاميًا. وفي هذا السياق تجيء ورقة الدكتورة ميساء الخواجة بعنوان «أنماط الخطاب الثقافي - الوحدة والتعدد» والتي اتخذت من موضوع قيادة المرأة للسيارة نموذجًا للخطاب الثقافي بين كل من السلفيين والليبراليين، وقدمت خلال ذلك قراءة أسلوبية في الظاهرة وما بين الخطابين من تعالق وتجاذب وكأني بها قد أسرفت في التأويل والتفسير، وقد ألمحت في مداخلتي أن قضية المرأة لم تخدم في خطابنا الثقافي إلا من خلال الرجل وبصوته فهو المنادي بحقوق المرأة، وهو المنادي بقيادة المرأة للسيارة وكأن الرجال يحملون هذه المسألة دون السيدات متسائلاً عن دور المرأة في المطالبة بحقوقها وأن لا تكون صدى لطروحات الرجل!! وهذا ما جعل الكاتبة الأستاذة هدى الدغفق تقدم في ورقتها الموسومة ب «واقع المرأة المثقفة في المؤسسات الثقافية السعودية» تتباكى على هذا الواقع، فالمرأة مقموعة من الأسرة والمجتمع المثقف فلا تستطيع نشر فكرها باسمها المعروف والأسرة والآباء والإخوان يمنعون ذلك فتلجأ المثقفة إلى الأسماء المستعارة أو التوقف. وكذلك دور المثقفة في اللجان النسائية في الأندية الأدبية وهو دور ثانوي/ تابع. وقد قلت في مداخلتي أن هذه الورقة ليس فيها من الموضوعية والعلمية أي شيء وهي أشبه ما تكون بمقال في صحيفة سيارة، وأن الزمن قد تجاوز هذه البكائيات فالمثقفة بدأت تشق طريقها في المجتمع السعودي وكثير من المثقفات والعالمات والطبيبات احتفى بهن الوطن عبر قيادته الرسمية ومؤسساته الثقافية ومؤسساته الجامعية والتربوية وأن المرأة قادمة. لكني أطالبها بسياسة الخطوة خطوة وعدم القفز على الثوابت الاجتماعية، مؤكدًا في ذلك أن قدوم المرأة حضاريًا وثقافيًا أمر قدري ولابد منه يساندها في ذلك العولمة والانفتاح الإعلامي والسياسي والتراخي الديني، والتغيير الاجتماعي، وستصل المرأة - على المدى البعيد - إلى ما يريده الغرب لها وحينها سوف تندم، ونندم نحن الرجال الذين نؤيدها، ثم نعود ونطالب، وهي سوف تطالب، بالعودة إلى بيتها ونقول آنذاك «مكانك تحمدي أو تستريحي»!!