د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية في مساء هذا اليوم - إن شاء الله - سأكون المتحدث في منتدى (مكتبة الملك عبد العزيز العامة) عن (تجاربهم في القراءة)، وذلك ضمن فعاليات المشروع الثقافي الوطني لتجديد الصلة بالكتاب، وهذا الملتقى يهدف إلى استعراض تجارب عدد من مثقفي المملكة في القراءة ورحلتهم مع الكتاب، في محاولة تربوية جادة لإغراء الشباب بالكتاب والقراءة، وأملي ألا يكون المنظمون لهذه الدعوة ممن استسمنوا ذا ورم، أو ظنوا أن وراء المتحدث من التجارب ما يضيف للمشهد القرائي شيئاً ذا بال، وأياً ما كان الأمر فإن الفكرة مناسبة لهذه المرحلة، فالقراءة لم تكن من أولويات الهوايات عند الشباب، إذ زوحمت بمغريات وصوارف كثيرة جعلت أمة القراءة لا تقرأ، ولن نمضي مع الاتهامات المتحاملة، إذ الخيرية قائمة وإن كانت بحاجة إلى المزيد، وأعيذها نظرات من القراء أن يحسبوا تجربتي ذات غناء، فأخاهم مكره لا بطل حين أقحم في الحديث عن تجربة متواضعة أحسبها دون المؤمل. وحديث كهذا يدخل في أدب (السيرة الذاتية) وهو أدب يغري الكاتب والقارئ على حد سواء، فلقد تهافت على هذا الفن أدباء ومفكرون وعلماء وسياسيون وحركيون متضلعون في فنهم ومجالهم وآخرون لا يلوون على شيء، والتطم سوق الأدب بسير تعرف منها وتنكر. و(السيرة الذاتية) جزء من الإبداع السردي، ومن تقحم عوالمه ببضاعة مزجاة وبقدرات هزيلة كشف عن ضعفه، والإبداع القولي يكون شعراً ويكون نثراً، ولكل نوع محققاته اللغوية والشكلية والفنية والدلالية، ولقد كان لي نصيب أوفى من هذا النوع من الإبداع، إذ تقصيت ما كتب عن تاريخ فن السيرة الذاتية وعن نظرياتها، كما قرأت دراسات تطبيقية وأعمالاً إبداعية متفاوتة، وأشرفت على دراسات ورسائل جامعية وناقشت أخرى وحكمت في بعضها وتناوشت مع بعض كتابها. وهذه الإلمامات المتأنية جعلتني أتهيب كتابة السيرة على الرغم من إلحاح بعض المحبين، ذلك أنني أدركت خطورة الموقف وصعوبة متطلباته من تجارب مهمة ذات مساس بحياة الأمة وقدرات تعبيرية ومصداقية في القول وحيادية في الأحكام. وكم من المجازفين من زجوا بأنفسهم، وكشفوا عن ضحالتهم، ذلك أن الإبداع السردي بحد ذاته يتطلب قدرات متعددة، لعل من أهمها الموهبة القصصية القادرة على استكمال بناء السيرة، وما تتطلبه من براعة في اختيار الأحداث والمواقف والتجارب ومن تجارب مهمة تتجاوز الخصوصية وثقافة عميقة، وثراء لغوي يستطيع الكاتب معه أن يختار بدقة مفردته المناسبة وتركيبه الجميل وعبارته الشيقة وأسلوبه الأنيق. وكُتّاب السير أو أكثرهم على الأقل لا يتوفرون على كل تلك القدرات والإمكانات، وإن تفاوتوا فيها، والمقوون منهم يغثون المتلقي، ويكشفون عن ضحالة ثقافتهم وتفاهة تجاربهم وتعثر لغتهم، ولهذا فإن ترددي في كتابة السيرة ليست في غير محلها كما يتصور البعض، وعندما تطلب مني مؤسسة ثقافية أن أقارب جزئية من سيرتي الثقافية أحس بالخوف والتردد ليس على مبدأ: (رضى الناس غاية لا تُدرك) ولكن على مبدأ (رحم الله امرأ كف الغيبة عن نفسه). أقول قولي هذا وإن كنت قد أمضيت أكثر من نصف قرن في القراءة والكتابة والتعليم وطلابي ينيفون على عشرة آلاف ومكتبي ناهزت عشرين ألف كتاب. إن الإقدام على كتابة السيرة مغامرة محفوفة بالمخاطر ومن تابع وقرأ في فن السيرة الذاتية أدرك حجم الإخفاقات والمغامرات الفاشلة، وكم من كاتب يشفع له منصبه أو مكانته أو سنه ولكنه لا يستطيع أن يقدم السيرة بكل متطلباتها اللغوية والفنية والدلالية، ولقد كنت أحد الذين يلحون على المقتدرين بكتابة سيرهم، وبخاصة من ذوي المسؤوليات الحساسة كصناع القرار في الدولة وقادة الفكر فيها، وفي رثائياتي لبعض رجالات الوطن من أمثال معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري ومعالي الشيخ إبراهيم العنقري، ولقد أنحيت باللائمة على المفرطين الذين لم يدونوا تجاربهم وإنجازاتهم، ولم يكن إلحاحي ولومي جزافا، بل هو موجه لرجالات أعرف جيداً أنهم يتوفرون على تجارب وتاريخ حافل بجلائل الأعمال. وشخصيات المجتمع متعددة المهمات والاهتمامات والتخصصات ومجموعها يشكل تاريخاً لم يحتل متن التاريخ، وإنما ظل هامشياً شفهياً يتداوله الناس في مجالسهم. فأين سير العلماء والأدباء والمعلمين..؟ وأين مغامرات رجال الأعمال ومبادراتهم؟ وأين تاريخ الصحافة من خلال سير كبار الصحفيين؟ بل أين تاريخ رجالات الدولة الذين أسهموا في صناعة هذا الكيان. لقد نفذت (دارة الملك عبد العزيز) مؤتمرات وندوات عن جوانب من حيوات القادة، وطبعت رسائل علمية عن بعض إنجازاتهم فكان لها أثرها الكبير في إثراء المشهد الثقافي. وما تفعله (مكتبة الملك عبد العزيز العامة) من ندوات ومحاضرات وما تطبعه من أعمال يصب في هذا المجال، لأنه جزء من السير الغيرية. وكم نحن بأمس الحاجة إلى سير ذاتية يكتبها ذووها ولا تكتب بالإنابة عنهم بعد رحيلهم، فحملة الأقلام وأساطين الصحافة ينطوون على تجارب وإنجازات تهم الأجيال القائمة والقادمة، ولعلهم يفعلون مثلما فعل الذين من قبلهم ف(العقاد) كتب (حياة قلم) و(المازني) كتب (إبراهيم الكاتب) وآخرون تداركوا تجاربهم وسجلوها لمن بعدهم فكانت نبراساً للمبتدئين، فأين سيرة (خالد المالك) الصحفية؟ وأين سيرة (تركي السديري) الصحفية وهما من مشاهير رؤساء التحرير في المملكة. وأين سير من سبقهم ومن واكبهم من صحفيين أسسوا لصحافة عربية تنازع لداتها المكانة والانتشار، فمن سيخلف هؤلاء بأمس الحاجة إلى تجارب أساطين الصحافة. وإذ نتذمر من تسويف البعض فإننا نحمد للمبادرين مبادرتهم في تدوين جوانب من حيواتهم العلمية والفنية والعملية. وممن تدارك أمره وأثرى مشهده وكتب جوانب من سيرته الذاتية فقيد الوطن (غازي القصيبي) رحمه الله. فكتاب (حياة في الإدارة) و(سيرة شعرية) و(الوزير المرافق) وحتى روايته (شقة الحرية) تعد من السير الذاتية الغنية بفنها ولغتها ودلالاتها. وآخرون كتبوا على استحياء، لكنهم تداركوا ما يمكن تداركه، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر العلامة حمد الجاسر في سوانحه وإن لم تكن في بُعدها الفني متوائمة مع الفن السردي السيري، ولكنها رصد أمين لجوانب من حياته الحافلة بجلائل الأعمال، وعلى شاكلته ما يكتبه أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في تباريحه، وما كتبه الأستاذ عبد الرحمن السدحان في قطراته، وما يتابع كتابته الدكتور عبد العزيز الخويطر في وسمه على أديم الزمن، وما كتبه ويكتبه عبد الفتاح أبو مدين في (الفتى مفتاح) و(تلك الأيام). و(دارة الملك عبد العزيز) حين أنشئت حرصت على تقصي ما أهمله التاريخ من سير رجالات الملك عبد العزيز، ومن ثم بدأت مشروع تدوين التاريخ الشفهي ومشروع جمع الوثائق بمختلف مستوياتها وأغراضها كالرسائل وغيرها، ولما تزل تواجه عقبات كثيرة وكبيرة وهي تحاول مسابقة الزمن وانتهاب الخطى لتفادي فوات الفرص بموت المستهدفين، ولو أن رجالات الدولة سجلوا سيرهم وأعمالهم لكان في ذلك استدراك للفوات التاريخي بوصفه المادة الثرة للسير الذاتية. وإذ أتحدث هذا المساء عن تجربتي القرائية فلقد كتبت من قبل عن حكايتي مع القلم، وذكرياتي في التعليم وما تلك إلا حلقات مفرقة بتلاحمها تتشكل السيرة الذاتية. ولست بهذه المناشدة أرغب في الإبداع الروائي المتعالق مع السيرة، ولقد سعدت بالإشراف على رسالة علمية للدكتورة عائشة بنت يحيى بن عثمان الحكمي تحت عنوان (تعالق الرواية مع السيرة الذاتية) الإبداع السردي السعودي نموذجاً. حيث تناولت مجموعة من الروايات السيرية، من أهمها (سفينة الضياع) و(ثقب في رداء الليل) للروائي إبراهيم الناصر. و(الغيمة الرصاصية) لعلي الدميني و(شقة الحرية) لغازي القصيبي، و(ثمن التضحية) لحامد دمنهوري و(الوسمية) ل عبد العزيز مشري وآخرين. فتلك لا تلتزم الدقة في نقل الأحداث ولا تكون مصدراً تاريخياً وثائقياً، والذي يهمني بهذا الصدر ما قام بدراسته زميلنا الدكتور عبد الله الحيدري، فلقد تناول بالدراسة التحليلية والنقدية والوصفية السيرة الذاتية بالمملكة، وكان لي شرف مناقشة هذه الرسالة التي تعد إضافة علمية. المهم أن نحفظ تاريخ بلادنا بحفظ تاريخ الرجال.