محمد بن عيسى الكنعان - الجزيرة السعودية تسبب خبر عمل عدد من الفتيات بوظيفة محاسبات (كاشيرات) في أحد الأسواق الكبرى في محافظة جدة، في فتح باب الجدل الفكري بين تيارات محافظة وأخرى (تنويرية) عن عمل المرأة بشكل محدد في الأسواق والأماكن العامة، حيث انتقل الجدل من المقالات الصحافية إلى البرامج الحوارية التلفزيونية، فجاءت الآراء متفقة على حق المرأة في العمل، لكن متباينة تارة وتارة أخرى متعارضة في تطبيقات هذا العمل، وبالذات لهذا النوع الذي انتقلت فكرته من جدة في غرب المملكة إلى محافظة الخبر في شرقها، ففريق (رافض) يرى أن عمل (الكاشيرات) يُمهّد لاختلاط المرأة بالرجل في ميادين العمل المفتوحة والمغلقة، لأن هناك وظائف وأعمالا يمكن للمرأة أن تخدم فيها كالمجال الطبي أو التسويقي أو الإلكتروني، بل يؤكد أصحاب هذا الفريق أن هناك مشروعاً وطنياً يسمى (مشروع العمل عن بعد)، أشار إليه الدكتور محمد السعيدي في برنامج (البيان التالي) بقناة (دليل) التي ناقشت هذه القضية، حيث يوفر للنساء وظائف بالملايين، لكن مات في مهده، رغم أنه يتيح للمرأة العمل من بيتها دون الحاجة للخروج والمعاناة اليومية أو التفريط بواجباتها الأسرية، وهو مشروع تنموي فاعل وعالمي بدلالة تطبيقه في دول غربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، غير أن الإعلام الذي يصفق لعمل (الكاشيرات) لم يكن أميناً في تعاطيه مع هذا المشروع الحضاري وتعزيز انتشاره. في المقابل يؤيد فريق آخر (تنويري التوجه) عمل المرأة كمحاسبة (كاشيرة)، لأنه عمل شريف يحقق الاكتفاء الذاتي لها، وتخدم من خلاله عائلتها ومواطنيها، وتسهم في بناء وطنها، بخاصة أن أغلب العاملات في تلك المهنة اتجهن لها تحت ضغط الحاجة، ويعملن بموافقة أولياء أمورهن، بل يرى هذا الفريق أن الموقف الرافض لهذا النوع من العمل يشبه إلى حد ما الموقف الذي اتخذه البعض بالأمس ضد تعليم المرأة واليوم هم أحرص الناس على تعليمها، ما يدل على أن حركة التاريخ كفيلة بإسقاط هذا الموقف. وبين هاذين الموقفين تبدو بعض الأصوات النسوية التي تستغرب هذا الجدل الدائر في الوقت الذي حسمت فيه الدول العربية والإسلامية هذه المسألة بشكل نهائي، كما تشير تلك الأصوات إلى أن صور عمل المرأة خلال تاريخ الإسلام تؤكد على أنها عملت في مجالات أعنف للمرأة وأكثر احتكاكاً بالرجل. لكن من قرأ المقالات وتابع الحوارات في إطار ذلك الجدل يجد أن الفريقين ناقشا القضية من شتى أبعادها الدينية والاجتماعية والاقتصادية، فكانت واضحة في مجملها، غير أن هناك مسألة محورية كان من المفترض أن تكون في قلب ذلك الجدل، وهي مسألة (الأولويات) التي هي جزء رئيس في (فقه الواقع)، خصوصاً أن الفريقين متفقان على (حق المرأة في العمل)، إنما الخلاف يكمن في تطبيقات هذا العمل وصوره، ومسألة (الأولوية) هي المرجعية الفاصلة لترتيب تلك التطبيقات. والأولوية لا تنحصر بحاجة المرأة لنوع العمل بقدر ما تتركز في حاجتها للعمل بشكل عام، وبهذا فالأولوية بعمل المرأة أن يكون في الوظائف والمهن المتوفرة والمتاحة، التي تتفق مع حاجة سوق العمل وتنسجم مع التوجه العام للمجتمع المبني على اعتبارات شرعية في المقام الأول، فعلى سبيل المثال هناك فرص وفيرة في القطاع الصحي، والتعليمي، والتسويقي وغيرها، فضلاً عن فرص (العمل عن بعد). فعندما تنعدم كل الفرص وتبدو سراباً يمكن للمرأة أن تبحث في خيارات أخرى شريطة أن ُتحكم بضوابط معينة، زد على ذلك أننا في حقيقة الأمر نعاني إشكالية في توظيف وعمل الشباب الذكور، الذين يقدرون بالآلاف وليس إشكاليتنا في مجموعة فتيات لا يتجاوز عددهن عدد أيام الشهر، فقامت هذه الضجة غير المبررة، والتلميع الإعلامي الذي لا نجد له أثراً في مجالات ومشاكل البطالة بين شبابنا