حتى في وفاته كان كبيرا، اختاره الحق عز وجل إلى جواره في العشرة أيام الأول من شهر رمضان المبارك المليء بالرحمات الربانية. انتقل غازي القصيبي إلى رحمة الله، هكذا انتشر الخبر الأليم بين السعوديين عبر رسائلهم وأخبارهم. لم يكن غازي القصيبي رجلا عاديا ولا مسؤولا تقليديا ولا أديبا مثل غيره. تولى المنصب الأول كوزير عن الصناعة والكهرباء وهو في الثلاثينات من عمره، وكان خلال هذه الفترة الذهبية من عصر التنمية السعودية صاحب أسلوب خاص ورؤية مميزة في عالم الإدارة وحس وطني رفيع مع قدرة أدبية وشعرية استثنائية مكنته من ترسيخ اسمه في مسيرة الخدمة العامة السعودية بامتياز. خرج من وزارة الكهرباء والطاقة ليحل في وزارة الصحة ويحدث فيها التطويرات والإصلاحات والتوسعات المهمة ثم يخرج بقصيدة تاريخية يتذكرها السعوديون جميعا. وبعدها انتقل إلى العمل الدبلوماسي سفيرا لدى البحرين، وبعدها سفيرا لدى المملكة المتحدة. وخاض معركة عنيفة وشرسة دفاعا عن تبعات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) على الإسلام والسعودية، وعاد للعمل الوزاري متنقلا بين وزارة المياه ثم إلى وزارة العمل ليخوض في الوزارتين المهمتين معارك قوية لإصلاح ملفات معقدة مؤثرة على سوية خطط التنمية ونجاحها وفعاليتها. وأيضا خاض معركة حامية الوطيس مرشحا نفسه لرئاسة منظمة اليونيسكو الدولية التي خسر معركتها بشرف وأمانة. وكل هذه المحطات أرخها ووثقها بأسلوبه الأدبي الراقي البليغ وقلمه الرزين، بالإضافة إلى أعماله الروائية المهمة مثل «شقة الحرية» و«العصفورية» اللتين نالتا حظا وفيرا من النجاح الشعبي والنقدي، وطبعا كان يواصل إسهاماته الشعرية في المناسبات المهمة مؤججا روح المواطنة في «وجه» الماكينة الإعلامية لصدام حسين إبان غزوه للكويت، وكتب غازي القصيبي رائعته «أجل نحن الحجاز ونحن نجد». تعرض غازي القصيبي لحملة منظمة مقننة مركزة موجهة مؤدلجة من خفافيش الظلام وأبواق التطرف، ونعت بأسوأ الأوصاف والكلمات ولعل أبسطها كان: «التغريبي، الكافر، العلماني، المنافق»، واجه الخطاب الظلامي بسلاح الكلمة والقلم وكتب مجيبا بالحجة الدينية مفحما أصوات من اعترضوا عليه. غازي القصيبي أحبه واحترمه المثقف والمسؤول والمواطن، عمل ناصحا وكان أمينا شريفا نظيف اليد، حرا في رأيه صلبا في الدفاع عما يعتقد. كان ناصحا في السر للكبار وداعما في السر للصغار. كل من زار معرض الملك خالد الذي افتتح في العاصمة السعودية الرياض شاهد الخطاب الخاص الذي أرسله الوزير الشاب وقتها غازي القصيبي لمليكه خالد وهو يخاطبه بأسلوب الابن لأبيه ينصحه بشأن قرار تم اتخاذه، وبين له وجهة نظر خاصة عن القرار. جيل قديم سيذكر غازي القصيبي مسؤولا شابا وأديبا لامعا ووزيرا مجتهدا وجريئا. وجيل جديد سيذكره بأنه من الآذان الصاغية والعقول الحكيمة ممن نزلوا لعقليات الشباب وحاوروهم، وزكوا الطرح الوطني وترفعوا عن المهاترات والنعيق العنصري البغيض. السعودية فقدت برحيله شخصية متزنة ومسؤولة وواجهة حضارية مشرقة ومثقفا من الوزن الثقيل وإنسانا مجتهدا وجريئا وعاقلا وحكيما، ساهم بشكل مباشر في تنمية بلاده في كل موقع كان به سواء بشكل رسمي أو بشكل شخصي وتطوعي. إنها خسارة كبيرة وفادحة يشعر بها كل من فقد الكبار في حياته. سيرة غازي القصيبي الذاتية سيرة فاخرة وباهرة وعظيمة تستحق الفخر والثناء والتقدير وهي مثال لقصص النجاح التي تفتخر بها الشعوب والأمم والمطالبة بتسمية شارع أو قاعة باسمه لن يوفي الرجل حقه بقدر المطالبة بتدريس سيرته في مناهج التعليم الرسمية كنموذج حضاري للنجاح في الزمن الحالي، فالشباب بحاجة لقدوة عايشوها ليقلدوها. شخصيا كانت تربطني بالراحل علاقة مليئة بالاحترام والمعزة والتقدير، كنت لا أتواصل معه كثيرا ولكن بالقدر الكافي نتناقش ونتباحث في نقاط أو مواضيع باحترام واهتمام. كان رجلا فريدا. آخر لقاء جمعني به كان في افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية تبادلنا حديثا جميلا. كان كبيرا. كل منصب دخل إليه دخله كبيرا وخرج منه أكبر، وأراد الحق عز وجل أن يترك الدنيا كبيرا. فغشاه بأيام فضيلة مباركة في شهر عظيم في عشرة أولى مليئة برحمة الحق عز وجل. رحم الله غازي القصيبي رحمة واسعة وأسكنه الجنة وغفر له وألهم أهله وأبناء موطنه الصبر والسلوان؛ فالفقيد فقيد الوطن وأبنائه. إنا لله وإنا إليه راجعون.