د.عيسى الغيث - المدينة السعودية إنني حينما احتسبت الكتابة الصحفية فلأجل القيام بواجب شرعي، ومن أهم المسائل قضية الصحوة وترشيدها، والوقوف أمام مراهقة بعض أبنائها، وحينما كتبتُ مقالاً في هذه الصحيفة بملحق “الرسالة” قبل أيام عن نقض الصحوة لغزلها بسبب بعض خطّابها والكثير من تصرفاتها، سواء بأفعال يجب ألا تتم، أو بسلبية يجب ألا تدوم، فإذا ببعض الإخوة يلومني على مثل هذه النصائح، التي تأتي في سياق الترشيد والتوجيه، ثم حينما قلتُ في لقائي الخميس الماضي بصحيفة (عكاظ) عن أن خطاب الصحوة القديم لا يصلح لليوم، ويجب أن نطوره وإلاّ سنغرق معه، فإذا ببعض الإخوة كذلك يستنكرونه، في حين أن في واقعنا المعاصر -فضلاً عن التراث- الكثير من الكتب المنشورة عن الصحوة وترشيدها، ومن أشهرها كتاب «الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد» لفضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، حيث نجد أنه أورد مسلّمات كثيرة لا يختلف عليها أحد، منها أن الصحوة حقيقة لا وهم، وأنها تتعرض من حين لآخر لحدوث الخلل، سواء من داخلها باجتهادات بشرية، أو من خارجها بمن يتسلط عليها، ولكن ليس هذا وذاك بمبرر لارتكابها الطيش والحمق، ولو كان الأمر مفسرًا فلا يجوز أن يكون مسوغًا، كما أننا نؤمن بأن الصحوة تحمل رسالة سامية، ولكنها ليست بمعصومة، ويجب علينا كغيرنا أن نقوم بواجب النصيحة والترشيد. وحينما اطّلعتُ على كتاب فضيلته، قلت في نفسي «ما أشبه الليلة بالبارحة»، مع أن الكتاب نشر منذ سنوات، ومع ذلك كأني أراه يصف الواقع، وهذا يعني بأننا لا نزال نبارح مربعاتنا القديمة، مع سكوت غريب في دجى ليل طويل بهيم، وقد أظهر فضيلته المعالم التي يجب أن يكون عليها منهج الترشيد والإصلاح للمسيرة، وجعلها منطلقة من عشرة مبادئ، لو لزمناها لأصبح الحال غير الحال. ومن ذلك أننا اهتممنا بالشكل والمظهر ولكن قصرنا في الحقيقة والجوهر، فعقيدتنا جوهرها التوحيد، وعبادتنا جوهرها الإخلاص، ومعاملاتنا جوهرها الصدق، وأخلاقنا جوهرها الرحمة، وتشريعاتنا جوهرها العدل، وأعمالنا جوهرها الإتقان، وآدابنا جوهرها الذوق، وعلاقاتنا جوهرها الأخوة، وحضارتنا جوهرها التوازن، فأين هذه الجواهر وتلك الحقائق عن ما يجب علينا سلوكه وعدم مخالفة ما يدل عليه أشكالنا ومظاهرنا؟!، ورحم الله الغزالي حين قال «رب ذرة من عمل القلوب تذهب بجبال من عمل الجوارح»، وطيب الله ثرى ابن القيم حين يقول «إن سلامة القلب من خمس، وهي: الشرك المنافي للتوحيد، والبدعة المنافية للسنة، والشهوة المنافية للعفة، والغفلة المنافية للذكر، والهوى المنافي للإخلاص». ومن أظهر علامات المراهقة الانشغال بالكلام فضلاً عن الجدل وترك العطاء والعمل، فكم تغنيّنا بالماضي واجتررنا التاريخ، وكأننا نسحب من رصيد غيرنا وننتحل خيره لأنفسنا، فنتكلف التبرير لمن نحب، في حين نتآلى على ما لا نرضى، مع الجدل العقيم كمحاولات اليوم في رفع الخلاف الفقهي، فالدين توحدت أساساته لتتعدد أغصانه وتثمر، وأمّا الزعم ولو ممارسة بأن الأوائل لم يختلفوا، أو محاولة إلغاء المذاهب والمدارس والاجتهادات، فكل هذا ممّا يعد في باب المراهقة، ولذا يجب السعي في ترشيده بدلاً من السكوت عنه أو تغذيته، وفي خلال ذلك تجاهلنا فقه العمل، وإذا كان السكوت خطأ فالجدل خطيئة، فضلاً عن اتهام الآخرين بالمروق والهرطقة والزندقة، متجاهلين سنة الحياة وفقه الحركة والسعي للتغيير والتطوير. وكم رأينا الركون للعاطفية والركوب على سفينة الغوغائية، متجاوزين العلمية والعقلانية، فمجدنا الذوات، وأسرفنا في الحب من جهة حد التقديس، والبغض من جهة أخرى حد التكفير، واستغرقنا في الأحلام، واكتفينا بحسن النية على حساب حسن الصواب، وتعجلنا وارتجلنا، وأغفلنا السنن، وركبنا المبالغة والسطحية والتهريج، ناسين أو متناسين أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن ابن آدم تعلّم من غراب، وسليمان من هدهد. وتجاوزنا من الأصول إلى الفروع، ومن الرؤوس إلى الذيول، ومن التبشير إلى التنفير، ومن التيسير إلى التعسير، عبر الفتوى والدعوة والتعامل، كما تجاوزنا الاجتهاد إلى التقليد والتجديد إلى الجمود، ولم يقف التجاوز عند هذا الحد، بل رأينا النكوص عن التسامح إلى التعصب، ومن الانطلاق إلى الانغلاق، ومن الوسطية إلى الغلو، ومن الاعتدال إلى الانحلال، حيث أن من أهم مظاهر الغلو عدم الاعتراف بالآخر، وإلزام عامة الناس بالعزائم والتشديد والغلظة والخشونة وسوء الظن والسقوط في هاوية التكفير والتنفيق والتبديع والتفسيق والتصنيف، ولا يكون التجديد والاعتدال والوسطية إلاّ سلفيًّا، والسلفية لا تكون إلاَّ متجددة ومجددة عبر فقه الواقع والمقاصد والخلاف والأولويات والموازنات والمآلات والسنن، فنبني التيسير والتبشير، ونجمع بين السلفية والتجديد، وكما قال ابن القيم «الفقيه الحق من يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون، مغفلاً ما هو كائن»، كما يجب أن ننتقل من العنف إلى الرفق، ومن النقمة إلى الرحمة، فكم اعتمدنا المتشابهات بدل المحكمات، والجزئيات بدل الكليات، والظواهر بدل المقاصد. ويجب أن نكافح المراهقة الميدانية والضلالة الفكرية، لننتقل من الاختلاف إلى الائتلاف، ومن التشاحن إلى التضامن، فالاختلاف في فروع الفقه ضرورة، كما أنه رحمة وتوسعة على الأمة، ولنعتبره كما اعتبره سلفنا الصالح بأنه ثروة في التشريع والاجتهاد، لا نقمة على الأحكام والعباد، فنحتمل الصواب في الرأي المخالف، وتعدد الصواب في المسائل الجزئية، وحتى المخطئ له نصيب ولو لم يكن مصيبًا، ومعذور ومأجور ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، فضلاً عن التعنيف والتسفيه والاعتداء، وكم غاب في ظل المراهقة إنصاف المخالف وذكر محاسنه، والعدل معه ونقده بالحق وليس انتقاده بالباطل، ولنتعاون فيما اتفقنا عليه، وهو الغالب نوعًا وكمًّا وكيفًا، ولنتسامح فيما اختلفنا فيه، ونتأدب مع الآخرين، ونجتنب الجدال السيئ والمراء واللّد، وختامًا أهنئ الجميع بقدوم شهر رمضان، جعلنا الله من عتقائه من النار.