الوسطية سمة هذه الأمة ، وبها تُعْرف بين الأمم ، وهي حالة محمودة تدفع أهلها للالتزام بهدي الإسلام فيقيمون العدل بين الناس ، وينشرون الخير ، ويحققون عمارة الأرض وعبودية الله ، وحقوق الإنسانية بين بني البشر ، ويعطى في ظل الإسلام كل ذي حقٍّ حقَّه ؛ قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وقال تعالى : (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) فأوسطهم : أعدلهم وأرجحهم عقلا. فالوسطية والاعتدال وصف لحقيقة الإسلام كما أمر به الله ، دون إفراط أو تفريط ، إذ الإفراط المبالغة بقصد التزام أحكام الدين ، والتفريط التهاون بأحكامه. وفي الإشارة لأهم ملامح الوسطية والاعتدال توضيح لها فهي تتمثل في قيم : (العدل ، والإحسان ، والخيرية ، والتيسير ، ورفع الحرج ، والرفق ، والحكمة ، والاستقامة ، والأمان ، والقوة ، والوحدة ، والبينية المعتدلة ، وإقامة الدين ، وعمارة الأرض ، وطاعة ولي الأمر والنصح له...). فالوسطية هي الاعتدال في كل أمور الدين والدنيا من تصورات وأفكار ومناهج ومواقف ، وهي تحر متواصل للصواب في التوجهات والاختيارات ، فهي ليست مجرد موقف بين التشدد والانحلال بل منهج فكري أخلاقي وسلوكي. ومن أبرز مظاهر الوسطية : أن أهلها وسط بين المحكّمين للعقل وإن خالف النص القاطع ، والمغيبين له ولو في فهم النص. وسط بين المقدسين للتراث والباخسين له وإن تجلت فيه روائع الهداية. وسط بين المغالين في التحريم كأنه لا يوجد في الدنيا شيء حلال ، والمبالغين في التحليل كأنه لا يوجد في الدين شيء حرام. وسط بين دعاة التشدد ولو في جزئيات الدين .. ودعاة التساهل ولو في أصوله وكلياته. وسط بين فلسفة المثاليين الذين لا يكادون يهتمون بالواقع .. وفلسفة الواقعيين الذين لا يؤمنون بالقيم. وسط بين دعاة فلسفة الحرية الفردية التي تعطي الفرد الحق في كل شيء ولو على حساب المجتمع .. ودعاة الفلسفة الجماعية التي تعطي المجتمع الحق في كل شيء ولو على حساب الفرد. وسط بين دعاة التمسك بالقديم ولو في الوسائل والآلات .. ودعاة التطور ولو في الثوابت والمبادئ والغايات. وسط بين دعاة التجديد والاجتهاد حتى في أصول الدين وقطعياته .. ودعاة التقليد وخصوم الاجتهاد وإن كان في قضايا العصر التي لم تخطر ببال السابقين. وسط بين الذين يهملون النصوص الثابتة في جزئيات من الدين بدعوى التمسك بمقاصد الشريعة .. والذين يغفلون مقاصد الشريعة الكلية بحجة التمسك بالنصوص. وسط بين دعاة الغلو في التكفير حتى كفّروا المسلمين .. والمتساهلين فيه حتى أبوه ولو من صرحاء الردة. وهي عمل بالعلم وعلم يبتغى به العمل، فلا تحايل على النص كما فعلت اليهود ولا رهبانية كما فعلت النصارى. وهي موازنة بين النصوص ومقاصدها ، فلا حرفية تغفل المقاصد ولا معنوية تغفل العمل بالنص. وهي موازنة بين الثوابت والمتغيرات. وهي إنصاف للمرأة باعتبارها شقيقة الرجل بعيدا عن تقاليد وعادات موروثة ليست من الإسلام في شيء ، وعن تقاليد وافدة تريد أن تسلخ المرأة عن قيمها. وهي شمولية في الفقه وتيسير في الفتوى ، وتبشير في التعليم والتوجيه ، وتوازن بين السلفية والتجديد ، فالسلفية عودة المجتهد للقرآن والسنة الصحيحة. والتجديد معايشة العصر ، والتحرر من أسر الجمود والتقليد. وهي دعوة إلى التسامح والتعايش مع الآخرين. وهي منهج للعمل بالشورى بعيدا عن استبداد الفردية لتحقيق مصلحة المجتمع. فيها يعتذر للمجتهدين ويعذر المختلفون في مسائل الاجتهاد. وفيها لا يقبل التشدد أو التشديد ولا يضيق المتسع أو يحرم المباح. ولا يلصق الغلو بالشريعة. ولا يؤخذ بالغلظة والفظاظة في الدعوة والمعاملة أو بسوء الظنون أو الوقوع في هاوية التكفير. إنها العلم والصدق والعدل والإحسان واليسر والسماحة.