هذه القضية تُعتبر إحدى مفاصل التفكير الفلسفي القائم على تسلسل فهم الخَلْق والخُلق الإنساني وفقاً لترتيب العقل المنطقي لمسيرة الحياة، وهذا التقعيد الفلسفي ليس نافلة قول، بل ضرورة في ظِل زحمة الجدل والحوار والنزاع المعرفي الذي يعيشه الإنسان العربي واصطدامه بواقع قمعي أو محاصرة مجتمعية تخنق حقه الشخصي الطبيعي، فينزع إلى مطلق التمرد الشامل لكل أُطر تقليدية أو فكرية ينتمي لها مجتمعه كردة فعل ضد الماضي أو الواقع، وعليه فهو يندفع بكل قوته إلى حالة التحرر المُطلق، وفي بدئها يكون محرضها الانتقام من ذلك المجتمع...من عقيدته.. من فكرته... من نظامه الاجتماعي القاصر... لكنّه يتحول بعد حين إلى نزعة حادة تحركها الغريزة لا المفاضلة القائمة على حرية العقل وقرار الرشد المنطقي، وما أُشير إليه هو حقيقةً حشدٌ من لغة الحالة الثقافية أو الجدلية أو الصراع بين أبناء جيل ردة الفعل ومجتمعهم الشرقي العربي المسلم بطبيعته وتاريخه. ولذا فهو ينتشر في تلك المنتديات التي يتحوّل فيها قرار الفرد وفقاً لنزعة الغريزة الانتقامية وليس قراءات العقل الراشد الذي لا يُزكي الواقع بكل أخطائه وكوارثة، لكنّه أيضاً لا يقبل منطقياً أن يكون الحَكَم جنوحاً غرائزياً أعقب ردة فعل ثائرة؛ فالحُكم على النهايات أو البدايات للإنسان والتاريخ لا تُحدّدها ردود الأفعال ولا صور الواقع، إنما حاكمية المنطق الفلسفي ودلائل الفطرة المحسوسة في النفس الإنسانية بدرجة لا تقل عن اليقين المرئي، ولذا كان ذلك الخطاب حاضراً متكرراً في جدل القرآن التحفيزي للنظر وللمصير الآخر وللمسير الدنيوي. وهنا لا بد لنا من التوقّف في هذا التفريق الموضوعي؛ لأنه فهم بشري مطلق، ولا يُمكن لأي داعيةٍ لأي مشروعٍ محافظ أو متمرّد أن يعتمد غير هذا الفهم لميزان الأمور ويُصرّ على استبداله بنزعة الإلغاء أو ثقافة الصدمة، فلا يُمكن أن تعتبر نفسك الحائرة قد اختارت مصيرها بالفعل بموضوعية، دون خطوات بسيطة لقواعد المنطق في الحكم على الأشياء والظواهر والنظر في العلل، وإلاّ فأنت تمارس التمرد على عقلك، وتُبكّر بانتحاره بحجة أنّ هذه القواعد لا تلزم لفهم المسار سواء في قصة الخلق أو في دستورية الثقافة الإنسانية، أيّها تختار فوضى الغريزة أو نظام الرشد..؟ ولا يُمكن أن تكونَ عادلاً في طرحك لتحديد مستقبلك، وأنت تُصرّ على بعثرة الأسئلة من الوجود إلى الشعور، إلى الثقافة الآدمية، إلى الخيار بين نظام الفضيلة أو نظام الإشاعة الغريزية، أو الخيار الدستوري الإنساني لتحديد نظام العدالة أيهم أرشد للبشرية، هذه مقدمة لا يمكن أن ينسفها التمرد أو الثائر، ثم يقول حاوروني في الفوضى.... الفوضى ليست حواراً... فان كنتَ بالفعل ترغب في قرارة نفسك أن تأخذ فُسحة تأمّل لأي قرارٍ تريد لهذه الحياة بين اليقينين الولادة والرحيل، فهناك سبيل للوصول وفق ثلاث فلسفات، لكنّها تبدأ باتفاق بأسس واحدة في كل مساراتها..العدمية... أو الإيمان الجزئي بفلسفة الأرض... أو الإيمان الكلي بين فلسفة الإنسان المتحد مع بلاغ السماء، فإذا أصررت على نبذ المنطق، ثم اندفعت إلى الواقع لتحاسب الفكر عليه فقد ارتكبت ظُلماً فلسفياً بَيّناً، فهنا أنتَ تُحاكم الرسالة إلى واقع سياسي تُدينه نصوصها، ومظلمة اجتماعية تُجرّمها، ونهب اقتصادي تحرّمه، فكيف تُعطي الحق لذاتك في أن تكون الخصم المحتقن، والحكم في ذات الوقت؟ لماذا أرجع معك إلى الغريزة مرةً أخرى؟ دعني أصارحك: الغريزة جسدية وسلوكية وأنت تعلم ذلك جيداً، وتعلم أنّ القول بالتمرد يُخرج الإنسان إلى طورٍ جديد، وخاصة الذي مُنع من المُتع والحرية الشخصية وطرح الفكر وآرائه الحرة المقبولة في أصل الرسالة، وهذا الطور له مُتعه الجسدية التي يجتمع أو ينفرد بها الشباب في زواياهم الخاصة.... قد تقول لي: لماذا تطرح السلوك الشخصي في حوارنا الفلسفي؟ سأوضّح لك الأمر. إنّ جزءًا رئيساً من حرية القرار، وفقاً لتجربة البشرية يتأثر بجواذب المتعة واللذة الجسدية، وتتحوّل داخله وقوداً للدفاع عن ثورته التي تقرؤها من زملائك في المنتدى... ثورة تلعن المختلف، وتُعمم الإدانة، وتجدها تستدعي الحرية الجنسية الغريزية دون مقدمات أو دوافع، ثم تخلطها بإدانة المختلف أكان منحرفاً أو متهماً. هذه الروح ليست بالضرورة تشمل كل من يتمتع جسدياً؛ فقد تكون دوافع الفوضى في التعقيب والردود وحملات الإدانة المستمرة للرسالة صادرة أيضاً من روح غرائزية معنوية... هي لا تنتظر الردّ أو التعقيب، أو أين وقفت الحقيقة... لكنّها تندفع، سواء كانتصار يُلهب الأعصاب خلف الكيبورد يُشعر الشاب بأنه يجب ألاّ ينكسر... فهنا تتسلط غريزة الثأر وشهوة الانتصار التي حققها على المخالف المنحرف أو المنصف، فتدفعه في هذا الاتجاه لتتحدّث العصبية للغريزة جسداً أو ذاتاً فكرية وليست قراءة للعقل، والغريزة والعقل هي الفيصل في إدراك البشرية الفرق بينها وبين الحيوان.... ولذا لا يُمكن أن يكون المقابل للحوار المنطقي تمرّداً غرائزياً. وتذكّر دائماً أنني لا أحيلك على الواقع، ولستُ أيضاً ألغي التاريخ، لكنني استشهد به، ولعلك تنتبه في مراجعاتك المستقلة دون أي وصاية من أحد... فستجد نصوصاً للرسالة الكبرى في تأمّلاتك ترشد الإنسان بشدة إلى مدار العقل لتقرير النظام الدستوري للحياة، وستجد في دقة المراجعة بأن إشكاليات البشرية أنّها خالفت ترجيح العقل، وحكّمت رغبات الغريزة... هنا سيبدو لك أن تلك الدقة التفصيلية في ذلك الميزان لا يمكن التصور أنها من مؤتمر بشري عقد لرفاهية العالم والعدالة للإنسان قبل ألف وأربعمائة عام... لا يمكن لذلك المجتمع البشري وفقاً لمعطيات التاريخ أن يصل لتلك المُثل... وحين تضطرب عليك بعض المسائل فارجع إلى المحكمات؛ فهي الفيصل.... أرجو أن تتقبل اقتراحي بأن شخص صديقك المتواضع طرح فكرة تستحق النظر قبل وصول اليقين الثاني..... سأصلي لك مهما بعدْتُ عنك.