لا شيء أضرّ بالمرأة وحقوقها مثل النظرة الرومنسية والحالمة تجاهها ؛ فمن تبجيل الشعراء وإطرائهم لمفاتنها الجسدية ومحاسنها المرئية , إلى حماسات رجال الدين ووصفهم إياها بصغر العقل وقصر النظر , مروراً بالفنانين والمطربين والملحنين الذين لم يتركوا نتفة في المرأة إلا وأتوا عليها وصفاً وتلحيناً وجهراً بالغناء . وهذا الهذيان كله ينتهي للمرأة نفسها التي اعتادت أن تطلي نفسها بالأصباغ والمساحيق لتصدق أنها بالفعل لا تصلح لشيء غير الزينة وسماع الاطراء والثناء الكاذب والذي يعرف الجميع نهايته المنطقية والغريزية , فهو ثناء ومديح ليس للمرأة في ذاتها , ولا لمكانتها الأنطولوجية أو الاجتماعية أو الأنثروبولوجية , وإنما هو اندفاع غريزي فقط . إن هذه النظرة الرومنسية واللاعقلية نحو المرأة أفقدتها الكثير من حجمها الحقيقي , وجعلتها خفيفة المقام والوزن , تطير مع أدنى هبة ريح وتضيع في أصغر زحام , وتحولت المرأة إلى مدافع عن هذه النظرة التي تختزلها في جسد فاتن , وصارت بنفسها تشرف على مثل هذا الأمر : فصار شائعاً أن يجد الرجل مرأة تزعجه وتصدع رأسه بقولها أنها متساوية معه في الفكر والعقل وتطلب منه أن يتعامل مع عقلها لا مع زينتها , وهي بنفس الوقت تضع أطنان المكاييج على وجهها وتتغنّج بطريقة ساذجة وبلهاء وتتكلم بسطحية وتحكم على القضايا والمواضيع بأساليب أبعد ما تكون عن التعقل . ومع هذا فإن كاتب هذه السطور لا ينكر أن ثمة اختلافات جذرية تفصل بين المرأة والرجل , وأن المرأة تبدو – بفعل هرمون الاستروجين – أكثر نعومة وليناً , وأدنى إلى الرقة والغضاضة , لكن هذا لا يعني التمادي مع مثل هذه النزعة المائعة التي تبلغ في نهايتها المتطرفة تهميش المرأة نفسها , وجعلها صفراً ينزاح للشمال على الدوام . والبديل عن النظرة اللاعقلية هذه , هي النظرة العقلية الصميمة , والتي تنظر للمرأة بوصفها إنساناً : والهبة الأساسية التي يتنعم بها الإنسان هي العقل , فلا يمكن أن نتصور الإنسان دون أن نتصور معه صفة ملازمة له وثابتة فيه تلك هي صفة التعقل . وما دمنا قد نظرنا للمرأة على أنها جسد وهوى وغريزة وسلوى ومتعة فهنا نكون قد نزعنا عنها عقلها وجعلناها دمية تتناقلها الأيدي وتتلاعب بها الأمزجة , والعجيب أن المرأة نفسها – غالباً إن لم يكن دائماً ! – تنساق خلف هذه النزعة , والسبب في ذلك أن حياة الدمى هذه هي مغرية لأن يعيشها الإنسان الفارغ , وهي ممتازة للكسالى والمتثائبين والرجعيين , ومن ثم فحينما يغيب التفكير العقلاني والنقدي , تصير المرأة بدورها ضحية لمثل هذا النمط الطفولي من الحياة , فهي تفكر كدمية , وتعيش كدمية , وتجد نفسها , في نهاية المطاف , أمينة سر على مصنع من الدمى التي صنعتها وأشرفت على إيجادها بنفسها , ولذلك فإن مجتمع النساء التقليديات ( وأقصد بالتقليديات هنا أي التابعات للنظرة الجسدية للمرأة ) هو مجتمع شبيه لحد كبير بمعرض لبيع الدمى والألعاب . وهذا يقودني للحديث عن « عقلنة « المرأة , وهي دعوة تتوازى مع « عقلنة « المجتمع , و « عقلنة « الحياة كلها من حولنا , فللمرأة هويتها وخصوصيتها ونزعتها الأنثوية شريطة ألا تتحول هذه الأمور إلى حواجز وعوائق ترتطم مع نواميس العقل وقوانينه , وهنا أشدد على العقلانية لأنها هي الضامن الوحيد أمام كل النزعات المتهورة والشاطحة سواء على صعيد المرأة نفسها أو على صعيد المجتمع والدين والسياسة والاقتصاد , فجميع الأصعدة الإنسانية يجري تقويمها ونقدها والتعديل من مثالبها وهفواتها عبر المعايير العقلية والمنطقية الصارمة , ومخطئ من يتصور أننا نستطيع أن نعيش بلا معايير واضحة : وهذا ينطبق على المسألة النسوية والأنثوية كما ينطبق على المسائل الرجالية والذكورية , وكذلك بالنسبة للمسائل الاجتماعية بعمومها وبكليتها , فلا شيء في حياة الإنسان بمعزل عن غربال العقل الذي ينخل هذه الأشياء نخلاً ليُسقط منها الطالح ويبقى على المفيد والصالح . وهذه المشكلة تتفاقم في مجتمع تعيش فيه المرأة أوضاعاً متخلفة ورجعية , إذ تكون فاقدة للهوية أو شبه فاقدة لها , ويزداد الوضع تعقيداً حينما يكون ثمة تخلف ثقافي وتراجع حضاري للوراء ونظرة رومنسية متطرفة لا تعطي للأشياء حقها ومقدارها من التحليل والتفكير : فهل المرأة هي مجرد جسد ولعبة كما ينظّر لذلك كثير من الشعراء والشاعرات ومن سار خلفهم من مريديهم ؟ وهل هي فتنة وغواية شيطانية جهنمية كما يردد المتنطعون في الدين ؟ وهل هي أعلى من الرجل وأكثر قيمة منه كما تقول « النسونجيات « المتطرفات أيضاً ؟ أم هي شقيقة الرجل وأخته وزوجته وحبيبته التي لا تكتمل حياته إلا بمشاركتها ولا تكتمل حياتها إلا به ؟ ألا فحسبي أن أكون ضمن الفئة الأخيرة , لا أحيد عنها شبراً ولا ذراعاً . [email protected]