لا تستطيع أن تنتج فكراً دون عقل ودرس وتحصيل ودربة.. ولا إبداع دون تمرد على الواقع وترك الذات الفكرية تنطلق في سبحات المجهول متطلعة إلى علاقة الذات مع دقائق الكون تنظر بعين العقل تبحث وتحلل , وتدرس , وتجرب , وتطبق حتى تصل إلى استكمال نظريات الفرضيات المتعاقبة التي تبحث الخروج من الشكل والجنس.. إلى تمثل نظريات هي في الواقع محاكاة لنوازع النفس البشرية التي تتصارع من أجل البقاء.. لا في إطار الجنس بل في إطار العرق , وما كان ذلك الإنتاج معاناة فكرية حقيقة.. رسمت خطّاً يحملها إلى الآفاق.. بسحر العقل الذي أسس لفكرة القوة.. المطلقة, الخارقة , الواحدة , ومهما تعاقب الفلاسفة والمنظرون والمفكرون عبر دورات الزمان فإننا نجد أن جلَّ اهتماماتهم تعني في الظاهر بتحقيق العدل والمساواة وتتمثل معايير أخلاقية في تعاقب السُّنن الحياتية واستخلاص نتائج لا تلبث أن تتحول إلى فرضيات توحي بنظريات تؤدي لتحقيق المثال الإيجابي لنظرية واحدة لا تخرج في أهدافها عن البحث في الإنسان في الوجود والعدم وهي في أعماقها تبحث عن الذات.. اليائسة , المعدمة , المشردة , المنكسرة , والمستبعدة.. إنها تلك الذات التي تنشئُ نظرياتها أو آراءها.. من إحساس القوة والضعف.. فكأنها تبحث عن فقدِ قوة الذات في ذاتها.. فتحيلها إلى فكرة تنشد الحق والخير. ولم يهمل العلماء والمفكرون والفلاسفة الإلحاح على خيرية الحياة وخيرية الإنسان.. منذ بدء الفكر الفلسفي وحتى يستطيع هؤلاء العلماء والفلاسفة والمفكرون خلق نظرية تأخذ بالتعمق أكثر في كينونة المخلوق وصيرورته. وإلى دراسة الفرضيات في نسق منطقي يهتم بالبحث لخلق وإبداع نظرية تمثل الحق والعدل والمساواة , عليهم أن يبحثوا في ماهية الهواء والملح والماء.. وذرات تنبعث من الشفق.. ومن نبض الأشياء ربما لم يتناس العلماء والمفكرون استحالة تشابه الأشياء برغم تماثلها.. واستحالة وجود العدالة المطلقة.. ولكنهم لم يكلّوا ولم يملوا يغرون أنفسهم بالبحث في النظرية دافعهم الارتقاء بالإنسان كما أسلفنا وقد عملوا وأعملوا فكرهم ولم يخب سعيهم وإنما كانت آراؤهم تعتمل في أعماق الأحاسيس الإنسانية وتتفاعل معها ولا أدل على تأثير تلك النظريات على ( موسيليني) و(هتلر) و(نابليون).. كلّ كان ينطلق من قناعات فكرية للتطبيق الانتهازي وليس للتطابق الافتراضي مع المعطيات. فسقطت كثير من تلك النظريات ولم يتبق إلا نظرية القوة ليس كما أرادها (نيتشه) بل إلى الذهاب أبعد لتحل نظرية العدمية الإنسانية أو العدمية الكونية إذا ترقبناها في مسارها المتمرد الذي أسس للاَّشيء.. إذ أن بواعث الحدس الشك والافتراض.. والثواني هي أعضاء الحركة الدنيوية التي تنبض في العقول , ونشدان الرقي الفردي خيار أوحد للنفوس اذن فكيف يتحقق فعل الذات في المجموع إذا لم تكن الذات المضطهدة متحفزة للتمرد ولو إلى السقوط لا الارتقاء. هذه من أكبر دفائن الغل النفسي التي يسهل إقناعها على التمرد حتى على طبيعة الأشياء.. لكن التمرد ليس الانفلات من الفكر للانقلاب ضد الفكر هنا يكمن الجهل الذي يؤدي إلى العقم لأنه لا يمكن إلا أن يتمرد الفكر الإنساني وإن اختلفت أنواع وأشكال التمرد لجانب الخير أو الشر.. وأكثرها الضغائن.. وأقلها الحب.. ولكنَّها لا تتنكَّب السبل للانتحار الاختياري. فالتمرد حركية الفكر لمعرفة حقيقة الأشياء إذا أخذناه في مفهومه البسيط وفي المعنى السياسي هو الخروج عن النظام ولكننا نحن نعني الجانب الأخلاقي للتمرد لا الفعل العدائي أو العمل الاصطدامي مع الشرائع والنظم ذلك هدم للمعني الارتقائي للعقل الإبداعي.. وتدمير للخلق والابتكار بل إنه الوصول إلى استحالة رؤية الوجه الخيَّر للتمرد لضعف في استقبال الأحداث وتفسيرها وترجمتها إلى دلائل لتحقيق البحث في الفكر بجدليات تبحث في الفعل وتستنطق الضد مع تناسي الذات وما صاحبها من انفعالات واضطرابات وارتكاسات أدَّت إلى قهر الواقع بالنِّتوء عن استقامته.. ليحدث الفعل.. وهو السؤال ؟! ودائماً الأجوبة تغيب في دوائر البحث حتى تستلهمها الأذهان.. وتكون النتائج هي الجواب لكل سؤال.. ذلك ما يُحدِثُ التمرد الأخلاقي الذي يصطنع التأثير , والقيمة , والحقيقة , ولا تحتاج الهيمنة على الفكر الأخلاقي بترهيبه أو تفسيره إلاَّ بالاجتهاد , ذلك أن الفكر الأخلاقي لا تستعديه المواقف الرافضة لاستنتاجاته بل على العكس يجعلها مادة حيه لتطلعاته لإمكانية تدعيم بحثه لاكتشاف الضدِّية بين التَّمرد والسبب.. كالقبول والرفض.. أمرٌ نسبي لا يشكل عائقاً في المفهوم ولكنه يثير حفيظة القديم باستشعار الخوف والمبادرة بالرَّدع غير المتحقق من وجه الفعل فيصطدم بالخطأ الذي ينشر فضيلة التمرد فيوقع الظن بالحق.. فيحتربا حتى لا تتبقى نقطةُ فكرِ إلا وقد أذعنت للحق وبددت أشلاء الظنون. فالظنون : أوهام تموت.. والشكُّ ميلاد اليقين.. واليقين : نهر الحقائق. والحقائق نور. والنور حروف والشمس تكتب تاريخ العجز الإنساني عن البلوغ لماهية رحلة الأنا وقابلية تذويب (الأنا) في (النحن) لا في (النخبة). فالشمس ليست مفردة وإنَّما هي شموس وحولها بناتها التَّسعة التي تثير مواكب الضوء والحرارة لتصل إلى عوالم الجهر والسر. أنا لم أعرف الأنا إلا بعد معرفة الأنت لأن (الأنا) و(الأنت) ليستا وقفاً علينا. فهناك مليارات (الأنا) و(الأنت) مثلي ومثلك على مدِّ هذه الأرض لذلك فالأرض لم تضق ذرعاً يوماً بالبشر وهم يتمردون على طبيعتها بالكثير من المخترعات التي نالت من الأرض حتى الجو لم يسلم بالثقب الذي أحدثه الإنسان في الأوزون. وأول تمرد أطلقه إبليس مع خالقه.. وقد غرس هذا الطبع في آدم عليه السلام فتمرد ليأكل من شجرة الخلد واكتسب وأبناؤه من بعده خليقة التمرد المبدع والمعارضة البنّاءة.. وهي تحقيق لمسيرة الكون وعمران العالم.. وانشغال عن الملل.. واكتشاف للمخبوء في زوايا الدهر فالتمرد أول الطرق إلى معرفة النفس والعالم كالطفولة تتمرد بالبكاء للأخبار بالجوع أو الألم.. كالصحافي والكاتب والأديب الذي يتمرد على الوجائع بالكتابة بالنقد الباني والبيان الملهم لرفع مظلمة وغرس سنبلة.. كذلك الجوع يتمرد في البطن بالألم حتى تشبع البطن لذلك فالفعل ينشئ التمرد.. ولا ينشئ التمرد الفعل بل يكون رداً للفعل بفعل أقسى أو أضعف وإنما يظل التمرد مؤدِّياً لحركية الوجود وسلامته من الانقراض الإنساني والكوني.. فالتمرد لمصلحة الجنس لا ضده. ليس التمرد للفناء وإنّما للحياة. إذن , كيف يكون التمرد نظرية للارتقاء البشري لنحاول البحث ونرى النتائج : مثال افتراضي تخيّل أن البداية نقطة امتدت من جوانبها لتحدث هذا الكون فهل تكون النهاية العودة إلى نفس النقطة.. حيث تتضاءل أحجام الأشياء فلا تُرى بالعين المجردة ما هي هذه النقطة الأزلية أهي بذرة التكوين أم هي نطفة كونية تخلَّقت في رحم الغيب لتلد هذا الكون الشاسع الممتد المترامي الأطراف المتسامي للأعلى.. والمتغلغل في الأعماق.. ولازال العلم الخارق الذي وصل من الأرض بالكواكب وكشف اليسير من الأسرار يعلن التمرد على الطبيعة ويغزوها بعد أن عرف الإنسان كيف يفتح مغالق أبواب الفضاء بنظام دقيق بُني على دراسة الظواهر الكونية ونتائج البحوث العلمية. فما هو الفعل المؤثر من الطبيعة ضد الإنسان ليتمرد عليها وينطلق إلى آفاق غير مسموح المرور فيها إذا افترضنا أن الإنسان الأول كان دائم التطلع إلى الشمس والقمر والكواكب والهيولي السحيق وانبهر الإنسان بتلك الظواهر الكونية فعبدالشمس والقمر والنجوم.. ولفرضية أن يكون الفعل هو (الخوف) من تلك الظواهر ليتمرد الإنسان بالعلم ويصل إلى انتهاك حرمة تلك الظواهر فالفعل وقع من الرهبة الكونية وأحدث الخوف الذي أحدث بدوره التمرد الخلاق.. ونتيجة ذلك التمرد أن طوع الإنسان الفضاء لفائدة البشرية جمعاء. وهذه إحدى روافد التمرد الأخلاقي. وقد أحدث ذلك (التمرد) ألفةً بين الأرض والفضاء واستخدام الإنسان الفضاء لإضفاء استخدامات تحقق أكثر رفاهية وأكبر تقدماً للفكر الإنساني وكما قيل لكل فعل رد فعل. لم يكن تمرد الإنسان على الطبيعة سريعاً وفورياً إزاء الفعل (الخوف) وإنما كان يسبقه فرضيات أدت إلى قدح الفكر وإلى الفشل ومعاودة التحليل والتجريب من النظرية إلى التطبيق إلى تحقيق إيجابية النتائج. من شعري : ما لهذي العقولُ فيها الشذوذُ وبكل الرُقى بها نستعيذُ صار بعض الزمان يأكل بعضاً وكأنَّ الزمان عجلٌ حنيذ ترهق الريح صافيات الأماني مثلما أرهق العقولَ النبيذ والشموع التي تذوب احتراقاً وشهيُّ الضياءِ منها لذيذ وجنوح العقول في كلِّ أرضٍ ترتضي الظلم وَهْو جِلْفٌ أخوذ صَمَتَ الدهرُ والظلام تهادى حيَّرتْنا خطاه أين نلوذ المفاهيمُ واعتساف النوايا والأماني ربيبها مأخوذ كلُّ شلوٍ على دروب المخازي يتمطّى غروره والنفوذ لا تأَلَّمْتَ يا عفيف السجايا إنما الصدقُ وحده المنبوذ صنْتَ أو خنْتَ أو تحمَّلت وزراً إنما العصر يحتويه الشذوذ