أطروحة الاقتصاد السياسي أو التأثير المباشر للوضع الاقتصادي في السياسات، قديمة وقديمة جدا، وتعود إلى ابن خلدون وآدم سميث، واتخذت هذا الاسم المصطلحي على يد كارل ماركس وفريدريك إنغلز. لكنها ما صارت مسلّمة إلا بعد الأزمة المالية العالمية الأولى عند انهيار بورصة نيويورك عام 1929. وقد أحدثت تلك الأزمة اضطرابا وانهيارا عالميين، وأفضت في المجال السياسي - بسبب انعدام الاستقرار، وانتشار البطالة والمجاعات - إلى انتصار الفاشيات، ونشوب الحرب العالمية الثانية. ولا يزال خبراء اقتصاديون كبار (من مثل ستغلتز وكروغمان، الحاصلين على جائزة نوبل) يتحدثون عن الاختلال الاقتصادي الأميركي وأثره في صعود اليمين السياسي واليمين الديني في الولاياتالمتحدة منذ أيام رونالد ريغان. وإدراكا من الجميع، بمن فيهم عتاة اليمين لهذا الأمر، دفعهم لمعالجة الموضوعات الاقتصادية والسياسية على المستوى العالمي معا، شأن ما كانوا، ولا يزالون، يفعلونه في اجتماعات الثمانية الكبار (8G) الغربيين، بقرن العناية بالمشكلات السياسية في العالم، إلى الاقتصاد، لأن «الاستقرار» في العالم معلق على الأمرين معا. وجاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهي الأشد منذ أزمة عام 1929، فهددت النظام العالمي كله، وأثبتت عدم تمثيلية وقدرة الدول الغربية الثماني، لأن الاقتصاد العالمي تنوعت أقطابه، فظهر فيه الناهضون الآسيويون العظام، والدول العربية البترولية، ودول أخرى تبزغ الآن مثل البرازيل وتركيا. ولذلك اضطر الرئيس الأميركي السابق إلى عقد قمة ضمت عشرين دولة، ذات حجم «قطبي» أو متوسط في المجالين الاقتصادي والسياسي. ورغم انشغال أولئك الأقطاب، في قممهم الثلاث حتى الآن، وبالدرجة الأولى، بالأزمة المالية وتداعياتها وحلولها، فإنهم عنوا أيضا بالاستقرار السياسي، وبالتالي فقد بحثوا في القمة في مشكلات الشرق الأوسط، والقرن الأفريقي، والتوتر بين الكوريتين، أيضا. لقد كانت المملكة العربية السعودية، كما هو معروف، أول المبادرين لاستخدام الاقتصاد (النفطي) في التأثير لصالح القضية الفلسطينية على أثر حرب عام 1973. ووقفت دائما مع منظمة التحرير الفلسطينية، وحاولت حمايتها من الصراعات العربية - العربية عليها وعلى القضية الفلسطينية. وكانت المملكة الأشد ألما للانقسام الفلسطيني بعد وفاة الرئيس عرفات، وجلب الملك الطرفين المتنازعين إلى مكةالمكرمة حيث وقّعا عهدا دون جدوى. ومنذ عام 2002 وضع الملك عبد الله بن عبد العزيز سقفا وأفقا استراتيجيا للقضية الفلسطينية في مبادرته للسلام. فقال العرب للمرة الأولى والأخيرة إن حدود السلام والحرب واحدة، وهي: خروج الاحتلال، وقيام الدولة الفلسطينية، والذهاب إلى سلام شامل إذا حصل هذان الأمران. وذهب الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى المؤتمر الأول لدول العشرين، إبان الأزمة المالية العالمية، وعلى مشارف الحرب على غزة، وفي ذهنه وحساباته هذا المفهوم للاقتصاد السياسي وللاستقرار. فالولاياتالمتحدة التي اعتمدت في عهد الرئيس بوش سياسة الفوضى البناءة، فغزت أفغانستان والعراق، ونشرت الاضطراب في سائر ديار العرب والمسلمين، تريد الآن، بل ومنذ أواخر عهد بوش نفسه، العودة إلى الاستقرار بما يسمح بسحب القوات، مع بقاء الهيبة، واستعادة التوازنات. وهي محتاجة إلى تعاون العرب (السعودية ومصر على الخصوص) في ترتيبات استعادة الاستقرار: حل المشكلة الفلسطينية، وترميم الدولة العراقية، وضبط الاندفاعة الإيرانية. كما أنها محتاجة إلى التعاون السعودي (والإماراتي والقطري) في الأزمة المالية العالمية. ومن المفهوم أنه ومنذ المؤتمر الأول لدول العشرين، فإن كل الأطراف أدركت حدود اللعبة: العرب ما عادوا مستعدين للتعاون في الأزمة المالية ولا في غيرها ما لم يحصل أمران: السير الحثيث باتجاه السلام العادل في فلسطين، واستعادة الاستقرار والقرار في بر العرب وبحرهم. وقد انقضى قرابة العام ونصف العام على ولاية أوباما، وتقدمت الخطط الأميركية في العراق، لكنها ما تقدمت في أفغانستان ولا في فلسطين! ففي أفغانستان تزداد طالبان قوة وهجمات ولا تخمد نشاطات «القاعدة». والاضطراب في باكستان إلى تزايد. وفي فلسطين تزداد السياسات والتصرفات الإسرائيلية ابتعادا عن السلام ومقتضيات التفاوض. ومع ذلك، ولأن العرب اقتنعوا بالجدية الأميركية في مساعي السلام، فإنهم عادوا ووافقوا على إبقاء المبادرة العربية مطروحة، وعلى التفاوض غير المباشر من جانب السلطة الفلسطينية مع إسرائيل، بوساطة أميركية. وبعد أربعة أشهر إما أن تتقدم المفاوضات فتصبح مباشرة، وإما أن يقطعها العرب ويذهبوا إلى مجلس الأمن مطالبين المجتمع الدولي بإنفاذ قراراته بشأن الانسحاب إلى حدود عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بمقتضى حق تقرير المصير. إنما على مشارف زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز لواشنطن، بدأ الأميركيون يتحدثون عن تقدم تحقق في المفاوضات، قد يسمح إذا تطور بتحويلها إلى مفاوضات مباشرة. لكن ما يتسرب من الإعلام الإسرائيلي يشير إلى أن التفاؤل الأميركي لا مبرر له إلا إذا حدث تغيير في الحكومة الإسرائيلية يزيلها كلا أو بعضا. ثم إن الأميركيين - وكدليل على عدم حصول تقدم ملحوظ - يفكرون في مؤتمر يسبق التفاوض المباشر - إن كان - ويشكل ضغطا على الإسرائيليين (وربما على العرب) في صورة التزامات علنية بالقرارات الدولية، وبالحدود، وبالسعي إلى السلام من طريق التفاوض، وبوضع تاريخ للإعلان عن الدولة الفلسطينية. وقد يكون مطلوبا من العرب مرة أخرى القيام بإجراءات «لبناء الثقة»، وموقف أكثر صرامة تجاه إيران، ودعم المؤسسات والوكالات الدولية ضمن جهود الخروج من الأزمة المالية وآثارها وتداعياتها. ولا شك أن العرب مضطرون لتنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن العقوبات على إيران، لكنهم لن يمضوا فوقها لزيادة الحصار، ليس لأن ذلك عمل غير أخلاقي وحسب، بل ولأن إسرائيل لديها مائتا سلاح نووي ولا يحاسبها أحد، في حين يراد خنق إيران من أجل برنامج وخطط غير مؤكدة. أما المؤسسات الدولية فقد بادرت دول الخليج إلى سماع مطالبها ودعمها، وذكرت في الوقت نفسه أن هذا الجهد ينبغي أن يكون جماعيا وتشارك بالنصيب الأوفر منه الأطراف الاقتصادية الكبرى مثل الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والصين والهند. وليس من المعروف ما هو المعني بإجراءات بناء الثقة، والتي ينبغي أن يقوم بها المعتدي وليس المعتدى عليه. إن لدينا ميزانين اليوم للسياسات والتصرفات: ميزان الاقتصاد السياسي، وميزان استمرار المقاومات والكفاح المسلح في وجه الحروب والتهديدات الإسرائيلية. وفي رؤى استراتيجية لبعض مفكرينا أنه كان خطأ من الأساس إسقاط البندقية ورفع غصن الزيتون. وبخاصة أن الإسرائيليين لا يحسبون حسابا لغير القوة. لكن العرب وقد جربوا النهجين على مدى نحو السبعين عاما، لاحظوا أنه بعد خروج مصر من المواجهة، صارت المقاومات تتحول إلى حروب أهلية وانقسامات لا مرد لها. والواقع أن الميزان الاقتصادي يكتسب أهمية متجددة، كما أن المجتمع الدولي بكامله صار مقتنعا أنه بعد حروب إسرائيل وحروب الرئيس بوش، فقد صار من الضروري أن يسود الاستقرار القائم على العدل في هذه المنطقة الحيوية لاقتصاد العالم وأمنه. وهكذا فإن ذهاب الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى قمة العشرين، وإلى واشنطن، يعبر عن أمرين كبيرين: الدور المتجدد للعرب في المجال العالمي، ودور صون المصالح العربية الكبرى وفي طليعتها قضية الشعب الفلسطيني.