بعد مرور الأشهر الثلاثة الأولى من عمر إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بدأت أولوياتها وتوجهاتها الرئيسية فيما خص صياغة سياسة خارجية جديدة للولايات المتحدة في التبلور. وقد شكلت جولة أوباما الأوروبية، والتي شارك فيها على التوالي في قمة مجموعة العشرين بلندن وقمة الحلف الاطلسي في ستراسبورغ وقمة الاتحاد الأوروبي في براغ، واتبع ذلك بزيارة رسمية الى تركيا، الفرصة الأبرز للوقوف على مفردات هذه السياسة الجديدة. عوضا عن النزوع نحو الانفرادية والتعويل المبدئي على الأدوات العسكرية، وكلاهما وسم بامتياز الفعل الخارجي للولايات المتحدة خلال سنوات بوش الماضية، تبدو إدارة أوباما راغبة وقادرة على اعتماد الدبلوماسية المتعددة الأطراف كأداتها المركزية للتعامل مع التحديات العالمية التي تطرحها عليها اللحظة الراهنة بخاصة تلك المرتبطة بالأزمة الاقتصادية والمالية العالمية والإدارة التوافقية للعلاقات بين القوى الكبرى والحرب على الإرهاب وبؤر التوتر الإقليمي في الشرق الأوسط. فعلى رغم أن واشنطن أرادت من دول مجموعة العشرين الالتزام بزيادة حجم الإنفاق العام لتنشيط اقتصادياتها ومن ثم الحيلولة جماعيا دون استمرار التراجع المخيف في معدلات التبادل التجاري العالمي وانهيار أسواق المال وتحول لحظة الركود الراهنة إلى حالة كساد ذات تداعيات أعمق وأخطر، بيد أنها تعاطت بإيجابية مع الرؤى الأوروبية - الألمانية والفرنسية بالأساس - المطالبة بإصلاح المنظومة المالية والمصرفية العالمية عبر توسيع قدرات صندوق النقد الدولي والاتفاق على إجراءات ملزمة تهدف الى الحد من النشاط الإقراضي المستهتر ومحاصرة ملاذات التهرب الضريبي. كذلك لم تحل إدارة أوباما بين مجموعة العشرين وبين التوافق على تقديم دعم حقيقي للدول الفقيرة لمساعدتها على مواجهة التداعيات الخطيرة للأزمة الاقتصادية والمالية. من هنا جاء البيان الختامي لقمة العشرين بلندن معبرا عن هذه المطالب المختلفة بإقراره الالتزام بضخ 5 تريليونات دولار حتى نهاية عام 2010 لتنشيط الاقتصاد العالمي وتقديم 500 بليون دولار لزيادة موازنة صندوق النقد الدولي و448 بليون دولار لمساعدة الدول الفقيرة وإعداد قائمة بملاذات التهرب الضريبي. على مثل هذا النهج التوافقي وعلى ذات الديبلوماسية المتعددة الأطراف يعول أوباما في مسعاه لإعادة صياغة العلاقة بين الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين من جهة وبينها وبين روسيا والصين من جهة أخرى. استغل أوباما مشاركته في قمة الناتو (4 نيسان / ابريل الجاري) في مدينة ستراسبورغ الفرنسية للاحتفال بمرور 60 عاماً على تأسيس الحلف وعودة فرنسا إلى قيادته العسكرية العليا لإظهار نفوره الشخصي ونفور إدارته السياسي من الانفرادية التي وسمت علاقة بوش بالأوروبيين وعزمه على العودة إلى شراكة حقيقية بين ضفتي الأطلسي. وكان لافتا حديث أوباما أثناء لقاء حواري جمعه بشباب فرنسيين وألمان في ستراسبورغ عن مرض الغرور الأميركي وحتمية تجاوزه، تماما كما يتعين على الأوروبيين - من وجهة نظره - تخطي ما شاع بينهم خلال الأعوام الماضية من تعميمات سلبية ضد أميركا والأميركيين. سعى أوباما أيضاً لإقناع الحلفاء بتقديم المزيد من الدعم العسكري والمدني للحرب ضد حركة «طالبان» في أفغانستان بالتواكب مع البحث عن حلول سياسية (محورها الشروع في حوار مع من تسميهم الولاياتالمتحدة العناصر المعتدلة داخل طالبان) لخلق حالة من الاستقرار هناك والانفتاح التفاوضي على القوى غير الغربية المؤثرة في الداخل الأفغاني كروسياوإيران. ومع أن بعض الحكومات الأوروبية استمرت على ترددها لجهة رفع معدلات وجودها العسكري في أفغانستان، فرفضته مبدئيا ألمانيا ولم تلتزم بريطانيا وفرنسا سوى بالوعد بزيادة موقتة ومحدودة لا تتجاوز بضع المئات من الجنود، إلا أن الأرجح هو أن الحلف سيتفاعل جماعيا بإيجابية مع الطلب الأميركي. أما في ما يتعلق بالعلاقة الأميركية مع روسيا والصين، وبعد أن توالت تصريحات رموز الإدارة الداعية لفتح صفحة جديدة مع روسيا (كما فعل نائب الرئيس جو بايدن في مؤتمر الأمن بميونيخ الألمانية) وتدعيم الشراكة مع الصين (الوزيرة كلينتون خلال زيارتها لبكين في جولتها الخارجية الأولى)، جاءت لقاءات أوباما مع الرئيس الروسي ميدفيديف ورئيس الوزراء الصيني هو جينتاو على هامش قمة العشرين لتعكس هذه الروح الإيجابية. وفي حين أكد أوباما باتجاه روسيا على انتفاء الرغبة الأميركية في الدخول في حرب باردة جديدة وعلى أن الخلافات القائمة بين الدولتين، إن بشأن الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية وانضمام دول كأوكرانيا وجورجيا للحلف الاطلسي أو لجهة التعامل مع الملف النووي الإيراني، ستدار انطلاقا من الشراكة القائمة بينهما والمصالح الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية المتشعبة التي تجمعهما، رفعت الديبلوماسية الأميركية الصين إلى مقام الشريك الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة والدولة العظمى ذات النفوذ التي ترغب واشنطن في التعاون معها لمواجهة تحديات عالم اليوم. بل ذهب أوباما أمام قمة الاتحاد الأوروبي ببراغ (5 نيسان الجاري) إلى ما هو أبعد من ذلك بدعوته روسيا والصين وغيرهما من القوى الكبرى إلى العمل معه على خلق عالم خال من الأسلحة النووية. وواقع الأمر أن ردود الأفعال الرسمية من موسكو وبكين تظهر ترحيبا واضحا بالتوجه والخطاب الأميركي الجديد. وظف أوباما أخيرا جولته الأوروبية، بخاصة زيارته لتركيا، لإنجاز قطيعة علنية مع سياسات وممارسات سلفه بوش المرتبطة بالحرب على الإرهاب ودور الولاياتالمتحدة في بؤر التوتر الإقليمي في الشرق الأوسط. فبعد الخطوات الأولى التي اتخذتها الإدارة لتصفية تركة بوش السلبية في هذين المجالين، وأهمها قرار إغلاق معتقل غوانتانامو وإعلان الالتزام بإنهاء العمليات القتالية للقوات الأميركية في العراق في آب / أغسطس 2010 وسحبها كاملة بحلول نهاية 2011، صاغ الرئيس الجديد في خطابه أمام البرلمان التركي (6 نيسان الجاري) رؤيته الإيجابية لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الأميركية في الأعوام القادمة. طوى أوباما في خطوة أولى صفحة الحرب على الإرهاب بصياغتها البوشية التي خلطت جزئيا بين الظاهرة الإرهابية والإسلام واعتمدت العمليات العسكرية الانفرادية إطارا وحيدا للفعل الأميركي واستبدلها بمقاربة تصف النشاط الإرهابي لحركات ك «طالبان» وتنظيمات ك «القاعدة» كتهديد للسلم العالمي يستدعي شراكة بين الولاياتالمتحدة والقوى الدولية الفاعلة والأطراف الإقليمية المؤثرة إن في أفغانستان / باكستان أو في الشرق الأوسط لمواجهة هذا التهديد أمنيا وسياسيا ومجتمعيا. ثم أتبع ذلك بإسقاط الحرب على الإرهاب كسياق لصياغة العلاقة بين واشنطن والعالم الإسلامي بتأكيده الإيجابي على أن الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة هي خيط هذه العلاقة الناظم. وفي خطوة تالية، صاغ أوباما - وكما أشار جزئيا من قبل في حديثه الى قناة «العربية» وكلمته الموجهة الى الشعب الإيراني بمناسبة عيد النوروز - مفردات سياسته تجاه الشرق الأوسط وعمادها التمسك بمبدأ حل الدولتين للمشكلة الفلسطينية والتسوية السلمية لمسارات الصراع العربي - الإسرائيلي الأخرى والرغبة في الانفتاح التفاوضي على الجمهورية الإسلامية في إيران شريطة تخليها عن برامج التسلح النووي. ومع أن ثمة اسقاطات مهمة في رؤية أوباما، أبرزها موقف إدارته من قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط ومستقبل نظرتها لحركات ك «حزب الله» و «حماس»، إلا أن جوهرها يقوم على إمكانية تبلور دور أميركي متوازن في عالمنا. أدرك أن الخطابات والتصريحات الصحافية، وبالأخص حين تأتي من رئيس يتمتع بطاقة كاريزمية عالية، ليست المعيار الوحيد لاستشراف السياسات والممارسات القادمة. بيد أن خطوات إدارة أوباما الأولى جاءت متسقة إلى حد بعيد مع الأقوال المعلنة وتبعث لذلك على التفاؤل. كما أن الاختبارات المستقبلية الجدية لهذه السياسات إن في الشرق الأوسط إزاء حكومة اليمين الإسرائيلية الرافضة لحل الدولتين أو في ما خص الملف النووي للجمهورية الإسلامية أو في تفاصيل الإدارة التوافقية للعلاقة مع القوى الكبرى كروسيا والصين لن تتأخر طويلاً. * أكاديمي مصري