منذ شهور طويلة (ليس فقط إثر معركة أسطول الحرية)، لا تذكر تركيا إلا ويحضر في الوعي العربي حلم المواجهة (مواجهة تركيا) لدولة الاحتلال الصهيوني من جهة، ولإيران من جهة أخرى، فيما لا تبدو تركيا في مزاج مواجهة شاملة مع أي من الطرفين إذا أخذنا كلمة مواجهة بمعناها الحقيقي. تجدر الإشارة إلى أن قضية المواجهة مع إيران لا تحضر في الوعي العربي بذات القدر، لكن شيوع الحشد الطائفي في المنطقة، وبخاصة في العراق وإثر المعادلة التي ترتبت على احتلاله، هو الذي يضعها في المرتبة الثانية بعد الصهاينة، لا سيما أن سياستها في العراق تبدو إشكالية إلى حد كبير، وتنطوي على الكثير من الاستفزاز لعموم أهل السنّة في المنطقة. لا خلاف على أن لتركيا (أردوغان) سياسة مختلفة فيما يتعلق بالدولة العبرية، وجاءت معركة أسطول الحرية لتزيدها توترًا، لكن ذلك لا يتم على قاعدة المواجهة الشاملة التي يريدها الشارع العربي، بل على قاعدة التوازن التي لم تحضر في سياسات العسكر الأتراك قبل ذلك، مع العلم أن جزءًا أساسيًا من تلك السياسة يأتي في إطار مغازلة الرأي العام التركي الذي يتعاطف بقوة مع القضية الفلسطينية. الأكيد أن الترحيب الواسع النطاق بالخطاب التركي حيال الدولة العبرية، إنما يعود في شق أساسي منه إلى بؤس مواقف الدول العربية، ولو كانت تلك المواقف جيدة بقدر ما لكان التقييم مختلفًا، لا سيما أن العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وتل أبيب لم تتغير إلى الآن، والأهم منها العلاقات الأمنية، فيما تراوح العلاقات السياسية بين موقف عادي وآخر غير ذلك. قبل أسبوعين من معركة أسطول الحرية حققت الدولة العبرية إنجازًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا تمثل في الحصول على عضوية منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، وهو الإنجاز الذي كان بوسع تركيا إفشاله، لا سيما أن قانون المنظمة يقضي بموافقة جميع أعضائها دون استثناء على ضم عضو جديد (معارضة عضو واحد تكفي لرفض طلب العضوية)، ولما حاولت تركيا مقايضة موقفها بموافقة تل أبيب على إدخال بعض البيوت الجاهزة لقطاع غزة، رفض نتنياهو ذلك، وقال إن بالإمكان مناقشة الأمر في وقت لاحق دون ربطه بالقرار. نذكّر بهذه الحادثة لنشير إلى بركة الدماء التركية التي سالت في عرض المتوسط من أجل فلسطين في تغيير المزاج العام في تركيا، رسميًا وشعبيًا. مع ذلك، يدرك أردوغان وأصحابه حجم العلاقة الخاصة التي تربط الدولة العبرية بالولايات المتحدة، وهم لذلك يراوحون في مواقفهم، لكنها في كل الأحوال أفضل بكثير من مواقف عدد كبير من الدول العربية التي يتردد أن بعضها قد أخذت تحرّض على أردوغان نظرًا لما تسببه مواقفه من إحراج لها أمام الجماهير. من جانب آخر يبدو التوجه التركي نحو الدول العربية تعبيرًا عن خدمة حقيقية للمصالح التركية، فالسوق العربية أكثر استقبالًا للصناعات التركية من الأسواق الغربية، كما أن الانتماء للفضاء الأوروبي ما زال حلمًا بعيد المنال، ومن العبث التعويل عليه أكثر من اللازم. نأتي إلى الجانب الإيراني، وهنا يمكن القول إن تركيا ليست في وارد الدخول في معركة من أي نوع مع إيران، وإذا قيل إن الحديث يجري عن توازن تصنعه مع النفوذ الإيراني، فإن ذلك ممكن بقدر ما، لكنه لن يكون قادرًا على لجم الطموحات الإيرانية بالكامل. ما نريد قوله هو أن تردي الوضع العربي إنما جاء بسبب تراجع بعض الأنظمة، وقد تابعنا ذلك في أبهى صوره في الملف الفلسطيني ومن ثم العراقي، والآن في استخفاف دول حوض النيل بمصر وأمنها القومي ووقوف السودان على عتبة التقسيم ونشوء كيان حليف للكيان الصهيوني، وهذا الوضع هو ما شجع نتنياهو على الغطرسة، وسمح لإيران بالتمدد، ولولا حيوية الشعوب العربية وقواها المقاومة لكان الوضع أسوأ بكثير، فالمقاومة هي التي أفشلت المشروع الأمريكي الصهيوني في العراق، وهي التي عطلته في فلسطين ولبنان. الآن، يمكن القول إن نتائج المواجهة الأمريكية مع إيران ومشروعها النووي، ومعها تطور الدور التركي، إضافة إلى معادلة التغيير في عدد من الدول العربية، هما الأكثر تأثيرًا في مستقبل المنطقة، ولا شك أنه من دون عودة مصر إلى دورها المحوري، وبعد ذلك تماسك المحور الثلاثي المشكل منها ومعها السعودية وسوريا، فإن الوضع سيكون سيئًا، وستكون مهمة قوى المقاومة في إفشال الهجمة صعبة إلى حد كبير.