يعاني توازن القوى الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة تحديات كبيرة الآن، كما قال ماريانو أغواير، مدير معهد بناء السلام النروجي، في 2 حزيران (يونيو). فاتفاق إيران مع تركيا والبرازيل على تبادل اليورانيوم الضعيف التخصيب بآخر أكثر تخصيباً في 17 أيار (مايو) الماضي، وقرار مجلس الأمن بفرض عقوبات جديدة على إيران، أظهرا شروخاً في هذا النظام. و «يمكن قياس هذا التغيير بالطريقة التي لطالما كانت تناقش بها بعض القضايا في شكلٍ محصور بالدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، مثل مسألة تهريب المواد النووية، وقد غدت الآن موضوع نقاش لقوى جديدة من جنوب الكوكب»، كما قيل في افتتاحية صحيفة «لوموند» في 19 أيار. ومن جديد تتعزّز مكانة منطقتنا كبؤرة للتوتر الدولي تختزل الصراعات والتجارب. وفي حين يمكن اعتبار مجموع الاتفاق والعقوبات انتصاراً نسبياً - موقتاً على الأقل - للحكومة الإيرانية، يبقى أن المؤكد أقلّ بكثير مما هو غير مؤكّد في الوقائع وخلفياتها. قد يكون مفهوماً ما تريده البرازيل، وأقل منه ما تريده تركيا، وأقل من الاثنين ما تريده إيران. فالأولى تهدف إلى تعزيز شرعية مطلبها بالانضمام إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بتقديم عرضٍ لإمكاناتها في ممارسة المسؤولية الدولية، والثانية تريد معاقبة الأوروبيين على تلكؤهم في قبول دخولها إلى اتحادهم، والتغلغل بقوة إلى العالم العربي فالإسلامي، والثالثة تريد كسب الوقت وخلط الأوراق ريثما تتطور الأوضاع وتبرز معالم جديدة. في المقابل، قدمت الولاياتالمتحدة استعراضاً لقدرتها على تخريج موافقة نواة المجتمع الدولي القوية - بما فيها روسيا والصين - على قرار لم يؤخره الاتفاق الثلاثي. الرابحون أكثر من الخاسرين: روسيا والصين ربحتا الرضا الأميركي ونجت مصالحهما بالنفط والغاز والتبادل التجاري عموماً وببعض أنواع الأسلحة خصوصاً، وتركيا عززت مركزها الإقليمي وتجارتها مع إيران (11 مليار دولار في 2009)، وأصبح لها نفوذ قوي مستند إلى الشارع العربي، وبالخصوص بعد حملة أسطول الحرية. والولاياتالمتحدة مررت العقوبات، تمهيداً للجولة القادمة مع الحكومة الإيرانية، التي تبدأ عند الملف النووي وتنتهي عند الطموح الإيراني الذي تراه استراتيجياً، وأثبتت هيمنتها الدولية موقتاً على الأقل. وإيران تنفست الصعداء من خطر الحرب لأشهر قادمة، وطورت علاقاتها الإقليمية والدولية، ولم تخسر حكومتها الأيديولوجية شيئاً بالعقوبات والحصار لأنها تعيش على العزلة والتوتر. خسرت الحكومة الإسرائيلية المتطرفة فرصة للتصعيد، وبعض أصدقائها. وربح العرب «أصواتاً» إضافية مع قضيتهم المركزية، وزادت عزلة حكوماتهم التي انتزعت منها تركيا بعض راياتها، في حين وقفت البراغماتية العربية عاجزة أمام قوة وحنكة البراغماتية التركية والإيرانية. ظهر محور ظاهري جديد في المنطقة، يعتمد على ثنائية إيران وتركيا، ويأخذ بالاعتبار القوة الإسرائيلية، ويبتعد عن السياسة الأميركية. وإيران وتركيا تعملان جدلياً، بالتوافق والتعارض، على «سدّ الفراغ» في الفضاء العربي لتحقيق مكاسب في مجالات متنوعة سياسية واقتصادية واستراتيجية. وهذا يذكّر بالثنائية العثمانية الصفوية سلباً وإيجاباً، وهي التي ظلت بقاياها حية حتى وقت قريب، مثلما تظهر في تقسيم العراقيين بين فارسي وعثماني. واختفى بعض معالم الوجود العربي، الذي يتحول شيئاً فشيئاً وجوداً افتراضياً ضائعاً بين إنكاره من قبل دعاة التهليل للطليعة الإيرانية - التركية، وتعليقه على استقرار الحكومات من قبل المتجاهلين دوماً لمتطلبات المرحلة واستحقاقاتها، الذين ينتظرون الفرج من الخارج، وهم بما لديهم فرحون. فظهرت صور أردوغان وخامنئي في الشارع العربي، وبهتت صور العرب. وهما يستحقان ذلك، كما نستحقه. من جهةٍ أخرى، ظهر بعض مواصفات مختلفة للخريطة الجيوبوليتيكية للشرق الأوسط، وإن كانت لا تزال باهتة وغير مستقرة. فبعد أن كانت مجرّد مربع يحتوي في زواياه على إسرائيل والخليج وتركيا وإيران، تحركت تركيا الآن باتّجاه إيران مادياً، وباتّجاه العرب على القارب الفلسطيني الذي يعني ابتعاداً نسبياً وغامضاً عن إسرائيل. وذلك لا يعني بعدُ أن هنالك «محوراً» ممانعاً وجديداً بين إيران وتركيا، كما يستعجل مواطنون ونخب عربية وإسلامية بالاستنتاج. لا يمكن اعتبار أردوغان مرتاحاً في أوضاعه الداخلية، وهو يغامر بتحميل تاريخ تركيا الحديث، ودستورها وجيشها وميولها العلمانية الحادة، ما قد لا تحتمله. وإذا ظهر أن استخدامه الكرامة الوطنية ناجح مع الجيش موقتاً، فهو لن يكفيه طويلاً. في حين قد يؤدي توظيفه للوطنية الممزوجة بالإسلام إلى توتير التنافس السياسي الداخلي ودفعه إلى حدود الخطر. كما أن حكومة طهران التي يقودها خامنئي وأحمدي نجاد تعرّضت لأزمة حادة منذ عام وهي مستمرة، بضغط الأطراف الإصلاحية، والحكومة تعمل على ترحيلها إلى الخارج، استناداً إلى الكرامة الوطنية والحق بالاستخدام السلمي المشروع للطاقة النووية السلمية، وبعثاً لمشاعر الوطنية والإسلام، ودغدغةً لها بشعار «الموت لإسرائيل». إدارة أوباما تعاني من مشاكل داخلية لا تكفيها العقوبات الجديدة لتجاوزها، والكونغرس بمجلسيه لن يقتنع ويرضى إلا بفرض عقوبات إضافية. فحاجة الإدارة إلى التراجع عن التشدد السابق وتدعيم سياسات الحوار ليست سبباً كافياً لوضع المصالح القومية الأميركية جانباً، في فرض التراجع على إيران، بالمعنيين الاستراتيجي والمباشر. وإسرائيل تحت ضغط تركيبة حكومتها اليمينية المتطرفة، وتوترها العميق من الخطر النووي وغير النووي من جهة إيران، لا تستطيع في ظله إلا التفكير بطريقة عسكرية ومحاربة. وفي ظل هذه الحالة العصبية وقعت في الخطأ الكبير بالتصدي لقافلة المساعدات الإنسانية في عرض البحر، وإيقاع خسائر بشرية سوف تدفع ثمناً سياسياً مقابلها، بإضعاف دعمها الغربي على الأقل، ودفعها ربما إلى مغامراتٍ أكثر حماقة. مع أنه لا ينبغي تجاهل أن الدعم الغربي لها مسألة ثابتة، لأن «هلاكها هلاك للغرب» كما قال أثنار. في مثل هذه الأيام من 1934 زار رضا شاه بهلوي تركيا بدعوةٍ من مصطفى كمال أتاتورك، وأعجب بالإصلاحات التركية وحركة التحديث فيها، ورأى فيها نموذجاً يمكن تطبيقه في بلاده. وإيران الحالية لن تأخذ الأمر على هذه الطريقة، ولا حكومة حزب العدالة بالطبع، لكن الإعجاب المتبادل الحالي مجرد مصالح عابرة حتى إشعار آخر. وهذا معقول، إلى هذا الحدّ أو ذاك، لتركيا بديموقراطيتها وتطورها التصاعدي، ومعقول كذلك لإيران بالمزاوجة القلقة ما بين ديموقراطيتها وولاية فقيهها. لكنه غير ممكن معظم الحكومات العربية لافتقادها متطلبات القوة والاستقلال، ولغياب اعتبار المصالح - العامة - في سياساتها الداخلية والخارجية. وفي مثل هذه الأوضاع، قد لا تتحمل البنى القائمة أية زلازل إضافية. وهذا كله لا ينفي ابتهاجنا بتزايد عزلة إسرائيل، وبالمواقف التركية، وبالدعم الدولي المتجدد للقضية الفلسطينية.