قد يختلف المراقبون حول طبيعة وسبب الدور التركى فى المنطقة ، لكنهم لا يختلفون حول حضور قوى لانقرة فى المنطقة التى أصبحت التدخلات فيها من خارجها أكثر من داخلها ، وغلب هذا الدور على دورين آخرين يحسب لهما حساب ، فايران برز دورها كفاعل فى المنطقة العربية فى غياب العراق ، فى حين كان لاسرائيل دور أيضاً خلال الفترة الماضية حينما وقعت اتفاقيتي سلام مع كل من مصر والأردن ، وتتحكم بملف الصراع فى ضوء تراجع الدور المصرى خلال العقد الماضى ، لكن هناك تأكيد أن الفراغ الذى سببته مصر بتوقيع اتفاق السلام مع اسرائيل عام 1979 كان هو السبب فى بروز العديد من تلك الأدوار . دور قوي في الشرق الأوسط في ظل غياب فاعلية الكبار المنظومة الغربية ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، دخلت تركيا مرحلة جديدة في سياستها الخارجية، قوامها الاستقلالية، والانفتاح، وتحسين العلاقات الإقليمية مع الجميع، وتعدد الأبعاد. ولم تعد تركيا جزءاً من سياسات المنظومة الغربية، أو مجرد تابعٍ للمسارات والمحددات الأمريكية والإسرائيلية. بل جاء انفتاح تركيا على محيطها الإقليمي والعربي والإسلامي منحها فرصة أفضل للتعبير عن هويتها الحضارية، وهموم وتطلعات الشعب التركي، كما أتاح لها مجالات واسعة للتبادل التجاري وتحقيق مكاسب اقتصادية، فضلاً عن أنه سهّل عليها احتمالات لعب أدوار سياسية أفضل. لكن سياسة تعدد الأبعاد التركية والانفتاح على العالم العربي والإسلامي، لا يلغي الهدف الاستراتيجي الرسمي المعلن لتركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع أنه لا توجد سياسة خارجية مشتركة وموحدة للاتحاد تجاه القضية الفلسطينية، لكن تركيا ستبقى مضطرة لأن تلتزم بضوابط محددة في دورها الشرق أوسطي أو في وساطتها. ويرجع د. مصطفي اللباد مدير مركز الشرق للدراسات الاقليمية والاستراتيجية تنامى الدور التركى إلى ظهور مجموعة من الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية أدت الى تعاظم وتنامي الدور التركي في منطقة الشرق الاوسط منها الفراغ الذي حدث في المنطقة جراء غزو العراق وأهمية السوق العربي بالنسبة للمنتجات التركية وحالة القبول التي تتمتع بها تركيا فى المنطقة يرجع إلى سياسة مدروسة العائد منها أكبر بكثير من التكلفة السياسية وأنها استطاعت قراءة التوازنات . النموذج التركي فيما يرى السفير عبدالله الاشعل مساعد وزير الخارجية الأسبق أن محددات الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط تعود إلى حالة الفراغ التي تسود المنطقة بعد انهيار النظام الإقليمي العربي، والتفكك والتردي الذي اعترى الوضع العربي بشكل عام، وخصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003. وقد أدرك قادة حزب «العدالة والتنمية» أهمية الشرق الأوسط، بوصفه مجالاً جغرافياً، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لا يجد معارضة من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية، نظراً لأنها تعتبره يشكل ثقلاً موازياً للدور الإيراني في المنطقة الذي يلقى معارضة الولاياتالمتحدةالأمريكية. كما أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة للتعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً هاماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلا في رسم بعض السياسات في المنطقة. لكنه لم ينف أن فشل تركيا حتى الان فى أن تكون عضوا فى الاتحاد الاوربى هو السبب الرئيسى لهذا الانفتاح على المنطقة ، حيث إن تركيا تعمل على أكثر من اتجاه ، فهى لا تنسى هذا الملف لكنها لم تعد تراهن عليه كمحدد أساسى لسياساتها الخارجية بقدر ما تريد أن تكون الدولة القوية على الجانب الآخر فى الشرق الاوسط وحليفا قوىا للقوى العاليمة الكبرى ، وحليفاً مميزا لديه سياسة مميزة وليست حليفا منصاعا . وكان لتركيا دروها الباز فى ملف الصراع الاسرائيلى السورى قبل أن يخفت فى المرحلة الحالية على خلفية تفجر بركان الثورات الشعبية فى المنطقة، لكنه دور رئيسى تصر عليه سوريا وإلا لن يكون، وهو ما اكده الدبلوماسى السورى عمار عرسان مشيراً إلى أن تركيا هى أجدر الاطراف منذ وقت لادارة هذا الملف ومهما تدخلت أطراف أخرى مثل باريس فإن دمشق تصر على ابقاء الدور التركى فى الموقع الرئيسى . لكن هذا الدور لن يتجدد الان، حيث من المؤكد أن الملف نفسه تجمد وربما سيبقى مجمدا لسنوات، ولن يكون بمقدر اسرائيل كما يقول ابراهيم نوار الخبير فى الشئون العربية إنه لن يكون بمقدر سوريا التى تشهد تصدعا فى أركان السلطة على خلفية هبوب تسونامى الثورات العربية إليها أن تجذب تركيا لفتح ملف الجولان مع اسرائيل لانقاذ النظام وللتغطية على ما يقوم به فتركيا تريد أن تبقى نظيفة اليد فى هذا الملف . اتخاذ سياسات متميزة لها لتثبيت مكانتها من جانبه يقول الدكتور رأفت غنيمي الشيخ أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر والعميد السابق لمعهد البحوث وا لدراسات الآسيوية بجامعة الزقازيق : إن حزب العدالة والتنمية ممثلا في قياداته و في مقدمتهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يقود نحو حقبة جديدة في السياسة التركية، فبعد عقود من « شبه التجاهل» التركي للمنطقة العربية التي خلّفت جروحاً كبيرة في جسد السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ، و بعد سعي متواصل من تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، عادت تركيا لتنظر نحو الشرق، في انعكاس لانسداد الآفاق أمامها غرباً.أضاف قائلا: أن من نقاط قوة تركيا أن أوروبا رافضة لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي لأنه نادي المسيحيين، و دخول دولة مسلمة بحجم تركيا سوف يجعل للمسلمين موطىء قدم راسخاً في أوروبا ، و هذا يرفضه الاتحاد الأوروبي جملةً و تفصيلاً، خصوصاً أن الدولة العثمانية وصلت في يوم من الأيام إلى بوابات فيينا، وقامت بتثبيت الإسلام في قلب أوروبا (ألبانيا، البوسنة والهرسك،...). كما أن دول الاتحاد الأوروبي يرون أن تركيا التي لا ترتبط بالقارة الأوروبية جغرافيا سوى بجزء صغير حيث يقع الجزء الأكبر من تركيا في القارة الآسيوية غير جديرة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و هم لا يريدون أن يرفرف الهلال في علم تركيا في قلب أعلام أوروبا ، و لا أن تدخل الثقافة الإسلامية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي و شعوبه ، فهم لا يريدون استعادة كابوس محمد الفاتح - بالنسبة لهم - و الذي يطاردهم في اليقظة و المنام. لذلك جاء الانفتاح التركي على منطقة الشرق الأوسط وخاصة المنطقة العربية من أجل أن تلعب تركيا دورا حيويا إقليمياً ودولياً يتناسب مع حجمها، وهذا كله يعطي إشارات واضحة على عودة الدولة العثمانية بشكل معاصر للدفاع عن قضايا المنطقة، و قيادة الأمة العربية العاجزة عن قيادة نفسها. أشار إلى أن سعي تركيا لتكوين دولة مؤثرة و ذات حضور قوي في الساحة الإقليمية و العالمية اتخذ آليات لا تتصل فقط بالبعد الاسلامي في سياسة حزب العدالة والتنمية، بل أخذ في الاعتبار التجاذبات و الاستقطابات الموجودة في المحيط الإقليمي لتركيا . وعلى الصعيد ذاته يقول الباحث أحمد على سليمان المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية بالقاهرة : لا زالت تركيا تصر على لعب دور إقليمى أكبر في المنطقة العربية من خلال اتخاذ سياسات متميزة و مستقلة عن الدولتين الحليفتين أمريكا و إسرائيل، و يتأكد هذا في الموقف الجاد الذي اتخذته تركيا من إسرائيل في أعقاب الاعتداء الاسرائيلي على أسطول الحرية الذي كان متوجها لكسر الحصار على قطاع غزة، الأمر الذي اعتبرته تركيا مساسا بدورها الإقليمي، ومساسا بمصداقية سياستها تجاه فلسطين، وهو ما ذهب بها للتهديد بمستقبل علاقاتها مع إسرائيل وإصرارها على رفع الحصار عن غزة مؤكدا أن تركيا استطاعت من خلال أسطول الحرية تسليط الضوء عليها و هزم إسرائيل إعلاميا و بالضربة القاضية وتعريتها وفضحها أمام الرأي العام العالمي . و تابع قائلا : إن ما رأيناه بالفعل من مواقف لتركيا تجاه ما ارتكبه الجيش الاسرائيلي من مجازر بشعة في قطاع غزة منذ عامين ، والذي تمثل في غضبة أردوغان في مؤتمر دافوس ، والمشادة الكلامية بينه وبين الرئيس الاسرائيلي، شيمون بيريز، يمثل دورا إقليميا تركيا مناصرا للقضية الفلسطينية وللعرب وفي الوقت نفسه يعد مثلا رائعا في الوقوف إلى جانب الفلسطينيين كما تأتي مشاركة أردوغان في القمة العربية الأخيرة في مدينة سرت الليبية العام الماضي. أطراف دولية تسعى لإبعاد تركيا عن الدور الإقليمي وكان حضور قوي للدور التركي أيضاً في الملف الفلسطيني ربما كان أكثر حضوراً من نظيره الإيراني الذى يمول العديد من الحركات الإسلامية والمقاومة وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي ، لكن تقديم تركيا لدماء العديد من الضحايا إثر تضامنهم مع المحاصرين فى قطاع غزة ، حينما هاجمت إسرائيل سفينة مرمرة ، و هو ما فجر خلافا دبلوماسيا وسياسيا وعسكريا كبيرا مع إسرائيل ، وحول الأمر إلى صراع ليس على الأدوار ، وإنما بدا أكثر على دور ترتب له تركيا في المنطقة من منطلق خلفية تاريخية لها في المنطقة بالنظر إلى عدم وجود مطامع لها كما هو الحال بالنسبة لإيران ، كما يقول نوار . ومن قبل كانت تركيا حاضرة بقوة على صعيد الملف النووي الإيراني ، حينما عرضت التوصل إلى اتفاق مبدئي لتبادل الوقود النووي الإيراني على أراضيها، في الوقت الذي و أبدت فيه إيران استعدادها لنقل 1200 كيلوجرام من اليورانيوم منخفض التخصيب إلى تركيا لمبادلة يورانيوم عالي التخصيب به، وذلك بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.لكن يبدو أن هناك أطرافا دولية لا تريد أن يكون لتركيا هذا الدور الإقليمي الكبير ، فما أن تقوم تركيا بلعب دور في ملف حتى يجرى تخريبه من جانب آخر كما يقول الدكتور أكرم حسام الخبير في المركز القومي لدرسات الشرق الأوسط ، مشيرا إلى أنه ربما كانت تلك المواقف تسجل بحكم الظروف السياسية التقليدية التي تمر بها المنطقة. لكن الأهم هو أن تركيا دخلت بقوة على خط الثورات العربية منذ بدأت تتفجر في تونس ، وكان لها خطاب واضح في مصر ، لكنه لا يرقى إلى مستوى الدور كما يقول نوار الأمين العام في حزب الجبهة الديمقراطي ، بل كان مجرد خطاب ملائم لدولة تصدر نفسها على أنه ديمقراطي ، لكنه على أي حال كان دعما لوجستيا للثورة المصرية . تركيا تحاول لعب دورين مهمين من خلال تقديم مبادرات في كل من ليبيا وتونس . لكن اللافت للنظر كما يضيف أكرم حسام فإن الوساطة الموجودة الآن بين أطراف النزاع في ليبيا هي لتركيا على الرغم من مشاركتها في التحالف الدولي ضمن « الناتو « ، لكن تدرك ليبيا أنه على الرغم من تلك المشاركة فإن هناك خيطا رفيعا مختلفا لدى تركيا التي رغم مشاركتها في التحالف فإن دورها لم يكن قتاليا بل كان دورا إنسانيا ، من جهة كما أن تركيا أعلنت أنها لا تريد عراقا جديدا في المنطقة .