لا بد أن يتدخل أحد كبار العلماء أو أكثر لوضع حد للخلاف الصامت داخل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بين طرفين كليهما من أبنائها، حريصين عليها حرصهما على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن الاجتهاد قسمهما إلى قسمين، تيار إصلاحي يقوده الشيخ أحمد قاسم الغامدي مدير فرع الهيئة بمكة المكرمة، وتيار محافظ بعضه يريد الإصلاح ولكن غلبه التوجس. السبب في كل هذه الضجة وهذا التوجس هم "صناع الكوابيس" إذ نجحوا أن يسربوا إلى عقول الإخوة المحافظين كابوساً صنعوه وخطة سرية زعموها, فحواها أن هناك من يعمل لتهميش الهيئة تحت غطاء التطوير والإصلاح، فصدق إخواننا هذا الكابوس، فكلما خرج عليهم مصلح صادق، حتى من داخل صفهم، بمشروع لإصلاح الهيئة وتطويرها حسبوا أن ذلك توطئة لإضعافها وتمرير لمشروع تغريبي زعم بوجوده صناع الكوابيس، ففاتهم أن ملوك البلاد السعودية وأئمتها أولي الأمر فيها، هم الذين انصاعوا للأمر الإلهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأقاموا لذلك رجالا وهيئة، ما كان لها أن تكون لولاهم، وأنها محمية مشمولة ومأمورة من قبل ولي الأمر، فلا يملك تشريقي ولا تغريبي أن يفرض تغييراً وتبديلاً في أمرها ونهيها. إن حرص الإصلاحيين في الهيئة هو من حرص كل مواطن سعودي ضاق أن يضيق البعض من الهيئة بسبب تجاوزات وأخطاء أفرادها بسبب النظام غير الواضح، والمساحة الهلامية التي تعمل فيها. فكادت الشعيرة أن تكون هي الضحية لخطأ موظف اجتهد فأخطأ ثم أخطأ دون أن يكون هناك جهة رقابية تقومه. الهيئة وقعت ضحية صناع الكوابيس وأصحاب الولاءات الحزبية ، فما إن خرج من صفهم عالم شرعي، ظل محل ثقة قيادات الهيئة المتعاقبين عليها منذ العقد الأول من القرن الهجري ورفع صوته يدعو إلى الإصلاح وهو الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي حتى خرجوا عليه بخصام الفجار، و وصفوه بالمحاسب وليس في ذلك عيب، فمن قبله من العلماء هناك من كانوا حرفيين يتكسبون من عرق جبينهم ولم ينقص ذلك من مقدارهم ولم يعايرهم السلف بعملهم ولكن بعضنا يزعم السلفية وفي نفوسهم آثار من جاهلية. نبشوا في تاريخه، وتهكموا على أقواله، سخروا منه، حاولوا تأليب أهله وقبيلته عليه، ولكن لم يجرؤ أحدهم أن يرد عليه بقال الله وقال الرسول، فمرادهم ليس الانتصار للهيئة والشرع وإنما للحزب والرأي الواحد. تحدثت أمس مع الشيخ أحمد قاسم الغامدي من مكتبه وكأنه يرد على من زعم إقالته، وسرب الخبر إلى الوكالات الأجنبية بينما الأصل في قرارات كهذه أن تصدر أولا من الرئيس إلى المرؤوس، ولكن هذا ديدن أصحاب حملات التشويه. غريب كيف أتقن هؤلاء فنون الاغتيال المعنوي لمخالفيهم والتي طورتها الأحزاب اليسارية والأنظمة الشمولية؟ لقد أجادوها ببراعة يحسدهم عليها وزراء الإعلام العرب في دول الانقلابات العسكرية الذين تفننوا في التشهير بخصوم الحزب. ولكني وجدت الشيخ مطمئناً، انساب في حديثه معي، حديث العالم الشرعي الشجاع، نعم هو يريد الإصلاح من الداخل ولكنه لا يروم سلطة، ولا ينازع الأمر أهله، فكرر عليّ أنه يؤمن تماماً بالنظام، ويسمع ويطيع لمرؤوسيه ولكنه يؤمن أيضا أنه حان وقت الصدع بالرأي الذي يؤمن به. لم يقل لي إن ما شجعه هو أن الزمن، زمن عبدالله بن عبدالعزيز، ولكني أحسب أنه ذاك. تذكروا أن كلمة "إصلاح" والاعتراف بالخطأ كانت منكراً من القول، حتى جاء الملك عبدالله المستشرف للمستقبل، الحريص على الدين وتمكينه من أداء وظيفته في المجتمع... فوضعه على ألسنتنا وخطه بأقلامنا فانطلق المصلحون يعملون في كل حقل يجددون به هذه الدولة الشرعية، في التعليم والقضاء والاقتصاد بل حتى في البريد وأنظمة الطيران، فإن كان الأمر كذلك فلم لا يكون الإصلاح في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي "من" هي في التعامل اليومي مع الناس ومن يقدم لهم النموذج الذي يفترض أن يكونوا عليه في حسن الخلق وحسن الظن بالناس؟ "حسن الظن" كانت أهم جملة سمعتها من الشيخ الغامدي، فهو يريد أن يغلب منهج حسن الظن في تعامل الهيئة مع الناس. سألت الشيخ: بعد أن سمعت وقرأت رأيك في الاختلاط ، هل تطبقه الآن؟ لو دخلت ومعك رجالك ورأيتني في مطعم مع سيدات ورجال نتحدث، وسألتني عمن تكون هذه السيدة بجوارك فأخبرتك أنها زميلة عمل وأننا نبحث في شأن له علاقة بالعمل، فقال لن أسألك ابتداء إذ سأحسن الظن فيك ما لم أرَ ما يدعو للريبة، وتقدير الريبة معروف ويحكمه العرف واللائق من التصرفات، وجودكم في المطعم اختلاط ولكن ليس بالاختلاط المحرم. ثم استطرد يتحدث في أقوال الفقهاء والأئمة في أحكام وجود الرجل والمرأة في مكان واحد وما يجوز فيه وما لا يجوز. لم يكن يتحدث معي برأي أحمد قاسم الغامدي، وإنما بقال الله وقال الرسول ويستشهد بآراء الإمام مالك، وأحمد بن حنبل والنووي، فما بال القوم لا يحسنون الظن في أخيهم الذي عمل معهم سنوات وسنوات؟ ولكني اكتشفت أن الشيخ أحمد لم يجد موجة طارئة ليركبها كما يزعم مخالفوه، وإنما رأى فرصة مناسبة ليصدع بالحق من داخل الهيئة في زمن الشجعان الذي نعيشه، منذ 1410 وهو يكتب مذكرات ويحتج على ممارسات وكلها موثقة وموجودة في أضابير الهيئة بالرياض وجدة ومكة المكرمة، تعرض بسببها لتضييق من زملائه في العمل، خاصة من طالهم عقاب أو توبيخ بسبب سوء عملهم، ولكنه صبر واحتسب. كانوا يريدون العمل بحرية فينهرون، ويوبخون، بل ويقتحمون البيوت بل حتى يضربوا المسيء والمشتبه به، دون أن يحاسبهم حسيب. إن ضربوا مخطئا قالوا غيرة مسلم، ومن اُستغضب ولم يغضب فهو حمار، وإن اقتحموا منزلاً قالوا لا حرمة لعاص مرتكب لكبيرة. عرفت الشيخ الغامدي متأخراً وعرفت من قبله رئيس الهيئة الجديد الشيخ عبدالعزيز الحمين، ورفيق دربه الدكتور عبدالمحسن القفاري، وأمضيت وقتاً طيباً معهما، خاصة الأخ القفاري، وقد وجدت أنهما يحملان نفس الرغبة بالإصلاح، فعجبت ألا يكون هناك لقاء وتعاون وتعاضد بين الثلاثة، أعرف أن هناك توجساً عندهم من الشيخ الغامدي ولعله من نتاج "صناع الكوابيس". من الواضح أن الشيخ الغامدي متحمس للإصلاح بزخم أقوى من صاحبيه، ولكن الشيخ يعرف الهيئة أكثر، عاش بين جنباتها لأكثر من عشرين عاماً متنقلاً بين العمل الميداني وضابطاً للقضايا وأخيراً رئيساً مكلفاً لفرع الهيئة بمكة المكرمة. كانت القضايا تمر عليه فيضبطها وفق النظام، وينتبه لما وقع من البعض من تجاوزات وما كان يسكت على الخطأ، هذه التجربة المتراكمة جعلته يشعر أن الإصلاح ضروري، لا يحتمل التدرج والإقناع وإنما قرار من فوق يتخذه مسؤول شجاع. اليوم نرى الهيئة تهتم بالكراسي العلمية والمؤتمرات الضخمة المكلفة حول عموميات متفق عليها، ولكنها عاجزة عن اتخاذ خطوة يمكن أن تحسم هذا الجدل في داخل دارها، فتدعو إلى اجتماع عام لمناقشة وإقرار نظام مطور للهيئة، تحدد فيه الصلاحيات، وعلاقاتها مع الأمن ويحفظ حقوق المواطن ويمنع الاجتهادات الخاطئة وينظم علاقاتها مع الحاكم الإداري في منطقتها فلا يحرج هو بنقض قراراتها، ولا تحرج هي بإلغاء ما اتخذته من قرارات وإيقافات. هذا لقاء يستحق أن يبادر بالدعوة إليه فضيلة الشيخ رئيس الهيئة عبدالعزيز الحمين، وهو كفيل بإزالة الجفوة الحاصلة بين الإخوة وكفيل بإعادة الاطمئنان لدى المواطن إلى وجود قوة إصلاحية حقيقية قادمة في داخل الهيئة، وليكن لقاء مغلقاً على قياداتها، بعيداً عنا نحن الصحفيين ، إذ نجح "صناع الكوابيس" في خلق جفوة بيننا وبين إخوتنا في الهيئة، ولابد أن يحضره كبار علمائنا ورجال الحكم والإدارة والأمن في بلادنا، فيخرجوا علينا بنظام محكم يحدد ضوابط العمل والمحرمات المجمع عليها الواجب إنكارها والمشتبهات التي ينفع معها النصح، فلا نسمع بعدها بقصة فتاة تبوك المضروبة ولا بشد الشعر في مشغل بالمدينة ونحو ذلك من القصص المضرة بهيبة الهيئة والنافية لمقاصد الشعيرة التي نؤمن بها جميعاً، ونتعبد إلى الله بالقيام بها، حتى نكون جميعاً، رجالا ونساء، من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.