كمتلقٍ لحوار أصحاب الفضيلة العلماء الجاري من حولنا حول مسألتي الاختلاط وصلاة الجماعة، لم أجد أو أفهم أو أستنتج أن هناك من شجع على اختلاط، أو من دعا إلى العزوف عن صلاة الجماعة وقلل من قدرها. فإذا كان الأمر كذلك، بعيدا عن تهويلات "صناع الكوابيس" فلِمَ إذن هذه الضجة والتنادي بالبيانات والفتاوى وكأن الإسلام بات مهددا في بلاد الإسلام؟ كل ما في الأمر أن ثمة حوارا صحيا يجري داخل الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اجتهاد شجع عليه انتشار العلم الشرعي، والصحوة الوطنية السائدة، مع تراجع دور الحزب والرأي الواحد والتعصب والغلو. لم نسمع أحدا من داخل الهيئة أو خارجها يدعو الناس إلى الاختلاط ومعاذ الله أن يفعل، ولا من يقول صلّوا في بيوتكم ومكاتبكم، فذاك أفضل من صلاة الجماعة. ما فهمته مجرد طرح تنظيمي يستند إلى فقه واجتهاد تعيد به الهيئة ترتيب أولوياتها بما يبعدها عن المصادمة مع العامة، ويفرغها للمهام الأكبر والتحديات الحقيقية التي تأكل في البلد من انتشار مخدرات وضعف الرادع الداخلي والإرهاب والتكفير. أنا وغيري كثير نختلط رجالا ونساء في إطار العائلة أو العمل، نفعل ذلك بعفوية، وكل منا غيور يعرف حدوده، وكل منا ما اختار امرأة وجعلها زوجة له تحمل اسمه وابنه إلا وهي أهل للثقة، فلا يجعل نفسه رقيبا عليها. الطرح الإصلاحي الجديد يقول إن هذا الفعل يجب ألا تنشغل به الهيئة، فلا تنكر على أصحابه ما لم ترَ أو تسمع بفعل يدخل في دائرة المحرمات المعروفة. الهيئة غير مسؤولة عمن يرسل ابنته إلى جامعة مختلطة، ولا عن المرأة التي تعمل وتشقى من أجل أسرتها وبيتها 8 ساعات يوميا بل أكثر في بنك أو مصنع أو مستشفى، بل يجب عليها أن تحميها بسن أنظمة تمنع وتجرم التحرش قولا وفعلا وتلميحا. لم أسمع أحدا من داخل الهيئة أو خارجها ينكر لمن يأخذ بالعزائم فيحجّب زوجته بما في ذلك غطاء الوجه واليدين، بل حتى يمنعها من العمل ولو أرادت، ويلزم بناته حتى الصغيرات منهن بالحجاب، أو يرفض رفضا قاطعا الدعوات العائلية حتى لو لم يكن بها اختلاط، فهذا حقهم واختيارهم. والدعوة الإصلاحية من داخل الهيئة تقول إنه ليس من حق الهيئة الحجر على اختيار الآخرين طالما أنهم يفعلون ما يفعلون في دائرة اجتهاد مقبول، وإن لم يكن مرجوحا دينا وثقافة لدى الأخ العضو وشيخه الجليل. كم سترتاح الهيئة وتريح لو فعلت ذلك. أما صلاة الجماعة، فما سمعت سوى أن الدولة، رعاها الله، مأمورة بالعناية بالمساجد وتأمين مصالحها وفرشها وإنارتها وجعلها آمنة، ينادى فيها بالصلاة ثم بعد ذلك للمسلم أن يستجيب لذلك النداء. والطرح الإصلاحي الجديد هو أن الهيئة تذكر الناس بالصلاة وتدعوهم إليها ولكن لا تحاسبهم إن تخلفوا وغير ملزمة بإحضارهم لها، وفي الحديث عن إغلاق المحلات للصلاة شأن اقتصادي وآخر عبادي، ففي الاقتصاد بات الإغلاق للصلاة مكلفا، ومع وجود المساجد القريبة والمصليات في الأسواق فلن يكون هناك تعارض بين سوق يعمل بينما يتناوب العاملون فيه للصلاة، لمَ لا نجرب هذا؟ وننظر في أن المقصد من الصلاة هو العبادة بالاختيار. فالاختيار سر من أسرار العبادة، يساعد على الخشوع والاستسلام والطاعة لله ومؤدٍّ إلى المحبة، ذلك السر الكبير الذي ما إن يفتح الله به على عبد إلا وتفتح له كنوز السعادة، ولكن هاأنذا أقترب من مساحة الفتوى وإبداء الرأي المحظور عليّ كغير متخصص. يمكن حتى أن نقيس أعداد المصلين في المساجد بعدما نغلب شرعة "من شاء فليؤمن" وأجزم أنها إن لم تبق كما هي فستزيد. كم يكون جميلا لو اقتنع إخواننا أن الإسلام قائم في هذه البلاد بالاختيار وطاعة الله بالحب، ولو قدر الله أن تعطلت سيارات الهيئة جميعها في يوم واحد قبيل صلاة فإن المساجد ستمتلئ بالمصلين لأنهم سمعوا من يحبونه ويطيعونه يناديهم أن حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، لا من يصرخ فيهم "صلِّ.. صلِّ". ستغلق المحلات اختيارا ورغبة، ستغطي النساء وجوههن طاعة وطلبا لأجر الخالق وليس خوفا من رجل، سنمضي نطرق الأرض حياءً ونحن نتحدث مع أخواتنا الأجنبيات عنا. سنذنب ونتوب ونتوق دوما إلى تلك المدينة الفاضلة.