تعتبر الأزمة الأخيرة في العلاقات الأمريكية/الإسرائيلية نافذة للتغيير ربما لم تتوفر منذ عام 2000 حين طرح الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مقترحاته لحل النزاع الفلسطيني/الإسرائيلي. طبعا، البعض في المنطقة قلل من أهمية الأزمة الراهنة بين الطرفين معتبرين أن العلاقات الأمريكية/الإسرائيلية أكثر متانة ورسوخا من أن تؤثر بها أزمة دبلوماسية عابرة. إذا كان هو اعتقاد بعض النخب السياسية في المنطقة، فلا معنى أن يكون هناك اعتقاد بإمكانية تحقيق سلام وفق حل الدولتين، وهو أمر لم تتوقف حناجر الأكثرية من الساسة العرب في الحديث عنه لوسائل الإعلام الغربية. الحقيقة هي أن النخب السياسية في المنطقة تظن أنها تفهم السياسة الأمريكية، وهو أمر لا ننفيه بحكم تجربتهم الطويلة في الحكم، ولكنهم في الحقيقة يفهمون بالقدر الذي يمكنهم من التعايش معها فقط ولا يملكون وعياً نافذاً إلى السياسة الأمريكية يمنحهم فرصة التغيير. أزمة الثقة بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو جادة، وهي لم تبدأ اليوم ولكنها رافقت أوباما منذ البداية، فقد طلبت الإدارة تجميدا جزئيا للاستيطان في القدسالشرقية، ولكن حكومة نتنياهو القائمة على تحالف أحزاب دينية يمينية رفضت المطالب الأمريكية، ليس هذا فحسب بل وتعمدت توجيه إهانة لنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن عبر إعلان توسعة المشاريع الاستيطانية أثناء زيارة الضيف الأمريكي. الإدارة الأمريكية ردت على هذا الأسلوب المتعجرف بالآتي: تعمد بايدن التأخر على عشائه الرسمي، نقلت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون رسالة الرئيس الغاضبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي –وهو تأديب بروتوكولي-، ثم تعمد الرئيس أوباما الحديث بشكل مباشر من طرف واحد فيما يريده من رئيس الوزراء الإسرائيلي ثم ذهب للعشاء مع عائلته مانحا الرئيس الإسرائيلي وقتا محدودا ودون أن يلاطفه أو يدعوه إلى مناسبة رياضية أو اجتماعية كما يفعل الرؤساء مع حلفائهم. ربما تكون هذه فرصة لأن يتمكن الفلسطينيون من طرح قضيتهم بشكل عقلاني وبعيدا عن العاطفة الموغلة في التظلم والتشكي وسياسة لوم الآخرين، إلا أن بعض الساسة العرب يؤثر إلا أن يفرغ هذه الفرص من محتواها، بل وأن يعطل أي توجه بناء أو تصحيح واعٍ للأزمة الفلسطينية. كل من تابع أصداء القمة العربية في «سرت» شعر بالرأفة تجاه الطريقة التي عومل بها السيد محمود عباس –رئيس السلطة الفلسطينية-، فقبل أشهر تمت دعوته إلى طرابلس لمناقشة تطورات الملف الفلسطيني، وبعد أن اجتهد الرئيس وحضر لم يجد أحدا في استقباله ليعود إلى رام الله متضايقا من هذه المعاملة، وحينها سرب إلى الصحافة أنه يفكر بعدم حضور القمة، ولكن تمكن الأمين العام للجامعة من جمع الرئيسين في اتصال هاتفي واحد لأجل أن يخلف الرئيس عباس المسألة وراءه. طبعاً، حضر الرئيس عباس القمة في موعدها ولكنه فوجئ بأنه الشخصية الوحيدة التي لم يتم استقبالها كباقي الرؤساء والضيوف الكبار، وبنفسية مثقلة حضر القمة ولكنه فوجئ بضغط ليبي وسوري عليه لكي يعلق المفاوضات الغير مباشرة ما جعله يشعر بانزعاج كبير للطريقة التي عومل بها وللتطفل على سياساته وقراراته. طبعا مسؤولو السلطة كانوا منزعجين للأسلوب الذي تم التعامل به مع الرئيس عباس، ويحق لهم ذلك، ولكن بدلا من أن يضعوا خطة فلسطينية وطنية لتجاوز حالتهم الراهنة ذهب البعض منهم –كنبيل شعث عضو اللجنة المركزية بحركة فتح- ليطالب القمة العربية بأن تبعث ثلاثة رؤساء عرب ليقولوا للرئيس أوباما أنهم يضعون –والكلام هنا لشعث- «كل الإمكانيات العربية، أموالنا وعلاقاتنا ونفطنا، مجندة لمواجهة الإجراءات الإسرائيلية ودعم للفلسطينيين وموقفهم «. لا أدري كيف أو لماذا يعتبر شعث –وغيره- بأن الأموال أمواله أو النفط نفطه، ولا كيف يريد أن تضحي أية دولة عربية أو غربية بعلاقاتها مع أعظم قوة سياسية، واقتصادية، وعسكرية في العالم لأجل أن يُعطى الساسة الفلسطينيون علاقة تفضيلية بواشنطن. هذه الأحلام الغير واعية، والتي تكشف عن فقر في الأفكار والرؤى الجديدة لدى بعض الساسة الفلسطينيين هي سبب تردي الحالة الفلسطينية في المقام الأول. لقد اعتمد الفلسطينيون طوال العقود الثمانية الماضية على الغير لتحصيل حقوقهم، ودائما ما راهنوا على الطرف المتطرف لا المعتدل. الحاج أمين الحسيني لجأ إلى الحركة النازية و راهن على هتلر لإعادة الحقوق إلى الفلسطينيين. منظمة التحرير الفلسطينية لجأت إلى العنف واختطاف الطائرات وتحالفت مع أغلب المنظمات الإرهابية واليسارية لعلها تحقق أمل الدولة، وأخيراً أصبحت حماس حركة تابعة للمحور الإيراني، وأصبحت تتلقى التعليمات من طهران ودمشق. مشكلة بعض الساسة الفلسطينيين هي أنهم لا يملكون رؤية واقعية وعقلانية قادرة على أن تؤسس لمشروعية الحقوق الفلسطينية في تأسيس دولة، ولهذا فإنهم ينتظرون دائما أن يقوم الآخرون بالعمل من أجلهم وإلا كانوا مفرطين بالأمانة وسيئين. نتيجة لذلك وجدوا أنفسهم في مواقف ضعف وعوملوا بطريقة سيئة في بعض الأوقات وبشكل غير منصف. خذ على سبيل المثال مشروع الجامعة بالمصادقة على مفاوضات غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. متى كانت الجامعة العربية مسؤولة عن توجيه الفلسطينيين فيما يتعلق بقضيتهم، أو لها الحق في أن تقول لهم ما يحرم عليهم فعله أو ما يحل لهم القيام به! المرة الوحيدة التي حقق الفلسطينيون تقدما في قضيتهم هي حينما أعلنوا من طرف واحد إلقاء السلاح واللجوء إلى الحل السلمي أوائل التسعينيات، حينها ذهبوا إلى أوسلوا دون أن يأخذوا إذنا من أحد وتوصلوا إلى اتفاق مع الإسرائيليين، ولقد كانت السنوات التي أعقبت اتفاقية أوسلوا المرحلة الوحيدة التي مكنت الفلسطينيين من الإحساس الفعلي بأن ثمة أملاً في إقامة دولة، غني عن القول أن حماس عملت وبدعم من دول عربية محددة على إسقاط أوسلوا بحملة عمليات انتحارية قوضت الجهود الدولية، وحين تمكنت الإدارة الأمريكية في عهد كلينتون من الوصول إلى حلول نهائية للقضية الفلسطينية، رفض الفلسطينيون أن يقولوا نعم غير مشروطة –كالتي منحوها في أوسلوا- بل اختار الرئيس الراحل عرفات طريق عسكرة الانتفاضة وهو ما قضى بشكل ممنهج على مشروع السلام بأكمله. اليوم لا تعدو القضية الفلسطينية كونها صراعاً بين مجموعات مسلحة مرتبطة بأنظمة مخابراتية هنا وهناك. هذا لا يعني عدم وجود شخصيات جادة في مشروع سلمي لتحقيق الدولة، ولكن هؤلاء تهمشت أصواتهم بواسطة أولئك الذين يكررون خطابات تلامس المشاعر الشعبية دون أن تكون لها فائدة حقيقية. الرئيس عباس، وهو شخصية أثبتت جديتها في اعتناق السلام كحل للمشكلة الفلسطينية، واقع بين طرفي رفض عربي داخلي وخارجي بحيث لا يستطيع أن يغير شيئا على الأرض، ولكن لو كانت هناك نصيحة له فهي أن لا يدفعه أحد إلى التصعيد لأنه لن يجني من ذلك شيئا، وأن يتوجه إلى شعبه في خطاب تاريخي يحدد فيه ملامح تحرر جديد للفلسطينيين من أفكار الماضي، والاتجاه نحو المقاومة السلمية لتحقيق الدولة ورفض أوهام الماضي. عندها فقط قد يمنح ذلك الأمل للفلسطينيين بحلم جديد، وأن يشعروا بأنهم جزء من هذا العالم وليسوا ضحايا له لأن الذي يعتبر نفسه ضحية أبدية لا أمل في شفائه.