ما الذي يجري في المجتمع السعودي اليوم، الذي كان يبدو، ولسنوات قليلة ماضية، وكأنه بعيد كل البعد عن كل تلك المشاكل والجرائم والحوادث التي يُسمع عنها في بلاد العرب والعجم، الشرق والغرب؟ عنف أسري، حالات انتحار، ارتفاع أعداد متعاطي المخدرات، العنف بين الشباب، وغيرها من حوادث كانت غير معروفة في المجتمع السعودي لسنوات ماضية إلا على نطاق ضيق، بينما هي تشكل اليوم ظاهرة واضحة، بحيث لا يمر يوم إلا ونسمع عن مثل هذه الحوادث. الجواب ببساطة هو أن المجتمع السعودي اليوم لم يعد هو ذاته الذي كانه قبل سنوات معدودة. المجتمع السعودي تضخم وتعقد، فالسعودية اليوم مجتمع مديني بنسبة تقترب من ثمانين في المائة. ومدن السعودية الكبرى اليوم تعد بالملايين، بعد أن كانت الآلاف كثيرة عليها. ومتطلبات السعوديين اليوم ليست هي متطلبات الأمس: مجرد لقمة تقيم الأود، وخرقة تستر الجسد، ومكان ينام فيه الأب والأم والولد. والسعودية اليوم جزء من هذا العالم وحركته، تتفاعل معه ويتفاعل معها. والسعودية اليوم مكشوفة للعالم، والعالم مكشوف لها. بإيجاز العبارة، سعودية اليوم ليست هي سعودية الأمس القريب، وهذه حقيقة معروفة، وبداهة لا تحتاج إلى مزيد من القول. ولكن ما هو ليس من أمور البداهة بمكان، هو أن هذا التغير المادي في نمط الحياة الاجتماعية، وما يستدعيه من تغير في العلاقات والقيم الاجتماعية، يستدعي بدوره تغيرا في التعامل مع المتغيرات والتغيرات الحادثة، السلبي منها والإيجابي على حد سواء. هناك مجتمع جديد قد برز إلى حيز الوجود، بعلاقات وقيم وعلاقات وعادات مختلفة عن المجتمع القديم، مجتمع التجمعات المنعزلة، ذات الحاجات والعلاقات المحدودة، التي يعرف فيها أعضاء الجماعة بعضهم شخصا شخصا. نعم قد تخالف مثل هذه الحادثة أو تلك، عادات وتقاليد راسخة إلى وقت قريب، ولكن هل ما زالت العادات هي العادات، وهل ما زالت التقاليد هي التقاليد، بل وهل ما زالت القيم هي القيم؟ هذا هو السؤال. فالعادات والتقاليد والقيم، هي في جُلها نتاج اجتماعي محض، وعندما يتغير المجتمع الذي نشأت في ظله تلك العادات والتقاليد، تتغير العادات بالضرورة. ليس معنى ذلك أن يحدث هذا التغيير بالسرعة ذاتها التي يحدث فيها تغير المجتمع، ولكنه حادث بهذه الطريقة أو تلك، وعلى مدى أطول. وتحدث المشكلة عندما يكون هناك إصرار على كل عادة وعلى كل تقليد كان سابقا للمجتمع الجديد الحادث، فيصبح هنالك نوع من التناقض، بل والصراع، بين العادات الجديدة الناشئة، والعادات القديمة المُصر عليها. فتجد أحدهم، فردا كان أو جماعة، يمارس في حياته اليومية كلا أو بعضا من العادات الناشئة، في الوقت ذاته الذي تبقى فيه العادات القديمة محتلة كامل الذهن. ومن هنا يحدث الصراع، وبالتالي تنشأ أزمة نفسية فردية، لا تلبث أن تتحول إلى حالة جماعية، ومن ثم تترجم نفسها في سلوكيات وحوادث تبدو في النهاية وكأنها الحل لما لا حل له، سواء كنا نتحدث عن الإدمان، أو العصاب، أو السلوك المتطرف، أو كل هذه الأشياء معا. فالمنتحر حين ينتحر مثلا، يكون في تلك اللحظة على قناعة تامة بأن الانتحار، أو الهرب من الحالة التي وجد نفسه غير قادر على حلها، هو الحل الأمثل: ليترك الجمل بما حمل، والدنيا بما حوت، وهو ذات ما يفعله المنتحر دينيا وإن كانت المبررات مختلفة. فالانتحار، كمجرد مثل هنا، هو وإلى حد كبير، النقطة الحرجة التي عندها تنفجر التناقضات التي ما عادت النفس قادرة على تحملها، فتقتل النفس ذاتها تخلصا من أعبائها، رغم أن المنتحر ينتمي إلى مجتمع متدين يقول له بأن المنتحر خالد مخلد في النار، ولكن جحيم الآخرة يبدو أخف عذابا لدى المنتحر من عذاب معاناته الدنيوية. نعم فإن الانتحار في النهاية هو نتيجة عُصاب حاد، ولكن العُصاب ذاته هو تراكم لتناقضات لا تستطيع النفس تحملها، فيكون الهروب هذه المرة عن طريق نفي العقل ذاته، العقل الممزق الذي فقد انسجامه واتزانه. كل فرد، مهما كان سليما، فيه شيء من العصاب، بمثل ما أن كل رجل فيه هرمونات أنثوية، وكل امرأة فيها هرمونات ذكرية، ولكن المهم هنا هو درجة العصاب، بمثل ما أن غلبة هذا الهرمون أو ذاك هو ما يحدد جنس الفرد، وما قد يؤدي إليه ذلك من نتائج اجتماعية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، على افتراض أن التشخيص سليم، هو: ما العمل؟ لن أدعي أن لدي ترياقا ناجعا هنا، فذاك يحتاج إلى جهد جماعي أكبر من طاقة أي فرد بعينه. ما يمكن قوله هنا هو الحاجة إلى تعامل مختلف مع هذه الظاهرة، والحوادث الناتجة والمتزايدة. فالعلاج الأمني في حالة الجرائم والعبث بأمن المجتمع ضروري ومهم، بل ومهم جدا، ولكنه بذاته لا يكفي. فالعلاج الأمني قد يكون ناجعا كليا بعض الوقت، وقد يكون ناجعا جزئيا كل الوقت، ولكنه لا يمكن أن يكون ناجعا كليا كل الوقت. والعلاج الطبي لهذه الحالة أو تلك الحالة، لمدمن هنا أو مريض نفسي هناك، مهم جدا، ولكنه ليست كافيا بذاته، بمثل ما أن مناصحة المتشدد قد تنجح مع البعض، ولكنها ليست حلا لمشكلة التشدد والعنف الناشيء عنه، طالما بقيت الظروف التي تخلق التشدد باقية. فطالما أن الظروف، الاجتماعية ومن ثم الفردية، التي خلقت هذه الحالة المرضية أو تلك باقية، فإننا قد نعالج حالة، ولكن تبرز لنا في النهاية عدة حالات. ليس معنى تغيير طريقة التعامل أن نصل إلى مجتمع نظيف تماما من الجريمة وأمراض النفس والعقل، فهذا من المحال طالما أقررنا ببشريتنا وبالتالي النقص الأزلي المركب في الذات البشرية. ولكن اختلاف طريقة التعامل قد تؤدي إلى انحسار الظاهرة. فعندما يتحول أمر ما إلى ظاهرة، يكون ذاك مؤشرا على خلل اجتماعي معين لا بد من اكتشاف مسبباته، ومن ثم محاولة علاجها، لا من أجل القضاء على كل حالة فردية، بل من أجل انحسار الظاهرة. فمن المعلوم مثلا لدى الاقتصاديين، أن البطالة حالة موجودة في كل الاقتصادات، في كل زمان ومكان. وما لم تتجاوز البطالة نسبة مئوية معينة من القوى العاملة في بلد معين، فإنها تبقى في حدودها الطبيعية. ولكن ما إن تبدأ البطالة في تجاوز تلك النسبة، يبدأ الحديث عن وجود أزمة غير طبيعية، ويبدأ البحث عن علاج. وبالمنطق ذاته يمكن الحديث عن الظاهرات الاجتماعية والنفسية عموما، ومن ضمنها العصاب المتزايد. الخطوة الأولى، ولا أقول الوحيدة، أو لنقل المدخل لعلاج مثل هذه الظواهر، تكمن في «الشفافية»، والشفافية المطلقة. فالجراثيم لا تعيش في حيز تغشاه الشمس، كما أن مجرد التعبير عن المشكلة، أي مشكلة، بكل شفافية ممكنة، يعتبر علاجا بحد ذاته، واسألوا أهل النفس وعلمائها في ذلك. طرح القضية، ومناقشة الظاهرة بكل وضوح وموضوعية ممكنة، دون محاولة إخفائها، أو البحث لها عن مبررات ومسوغات تخدرنا قبل أن تجعلنا من الواعين، هو الخطوة الأولى في علاج كل مشكلة وأي مشكلة، حتى لو طرحنا على بساط البحث قضية العادات والتقاليد، التي طالما وجدنا فيها مبررا ومسوغا لأي شيء وكل شيء. نعم، لدينا عادات وتقاليد وقيم تشكل أساس المجتمع، كما لكل بلد ومجتمع آخر الشيء ذاته، ولكن يجب أن لا يكون الاعتزاز بها مغلفا بعناد لا مبرر له، فنضيّع في النهاية الجديد والقديم معا، حين تصبح الغاية ضحية للوسيلة. قد تريحنا تلك المبررات، وتلك المسوغات التي نطرحها إلى حين، وتنتفي مسؤوليتنا عن استشرائها إلى حين أيضا، ولكن النتيجة في النهاية لن تكون لصالحنا وصالح مستقبلنا، إذا انتهى مفعول مخدر التبرير، وواجهنا الواقع السائر في طريقه غير عابئ بنا، بكل ثقله، وكل التزاماته التي لن تكون قليلة بأي حال. وقد نكتشف من خلال مناقشة القضية بكل شفافية ممكنة، ودون البحث لها عن مبررات ومسوغات غير مقنعة في النهاية، أننا لا نعاني من ظاهرة، وأننا أقل في ذلك من آخرين، ولكن مثل هذا الأمر لا يتم دون تلك الشفافية المتحدث عنها، ودون الإقرار قبل أي شيء آخر بأننا جزء من هذا العالم المليء بالتناقضات، ولسنا استثناءً له، هذا وللموضوع عودة أخرى.