إن التمجيد الخفي (للانتحار) بوصفه يرمز (للاحتجاج) على الأوضاع الاقتصادية والفساد وما إلى ذلك، لا يغير شيئًا من حكم الله في هذه (الكبيرة) في أعقاب حوادث الانتحار الأخيرة التي كتب عنها الإعلام المحلي بشقيه التقليدي والجديد في الأشهر المنصرمة، أثار انتباهي أن عددًا لا يستهان به من التعليقات في المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي المعروفة تميل إلى تسويغ ذلك العمل بدعوى الحاجة والبطالة والقهر والفقر، وقد طرحت على نفسي سؤالًا بعد أن لاحظت تكرر ذلك: هل أصبح "الانتحار" خيارًا مقبولًا؟! ولعل أكثر شيء أقلقني في متابعة تعليقات الجمهور، هو قناعة الكثير منهم أن المنتحرين وصلوا إلى هذا القرار بعد رحلة من التهميش واليأس والقنوط ، وبناء عليه فلا ينبغي أن يُلاموا على فعلهم ؛ لأنه لم يكن لديهم أي بديل آخر سوى الانتحار، ولا أخفيكم أن هذه المسوغات المتكررة أرعبتني جدًّا، فقد استشففت منها أن هناك تغيرًا في موقف بعض شرائح المجتمع من الانتحار. ولا أشك أن أكثر المعلقين على حالات الانتحار الأخيرة يعرفون حكم الانتحار شرعًا والنهي المغلظ الوارد في شأنه، لكن الإشكالية المقلقة هي في ذلك (التمجيد الخفي المستتر) للانتحار. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مَن تَرَدَّى مِنْ جَبَل فقتلَ نَفسَه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيها، خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فقتلَ نفسَهُ، فَسُمُّهُ في يده يتحَسَّاه في نار جهنم، خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ قَتل نفسَهُ بحديدَة ، فحديدتُهُ في يده، يَتَوَجَّأُ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا» هذا هو أصل حكم الانتحار كما جاء في السنة النبوية الصحيحة ، فهو كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن مما يجب قوله هنا: إن (المنتحر) المسلم قد يكون جاهلًا بحكم الله، أو ممن غلبته مشاعر (الكآبة والقنوط والإحباط) حتى تملكته فأصبحت مرضًا نفسيًّا مزمنًا قد يفقد معه عقله وتمييزه ، وقد يكون المنتحر مصابًا بمرض عقلي كالفصام (الشيزوفرينيا) يغدو معه الشخص في حكم من لا عقل له، فليس من الحكمة أو الموضوعية أن يتم استبعاد سبب (المرض النفسي) في تعليقات بعض الإخوة في المنتديات والمواقع أو التهوين منه، مع علمنا بأن حالات الأمراض النفسية والعقلية في ازدياد مستمر بسبب ظروف الحياة العصرية وضغوطاتها إضافة إلى أسباب أخرى عديدة. لا يمكن تجاهل ازدياد حالات (الانتحار) أو إنكار أن المشكلة كانت (تزحف).. أمّا الآن فهي (تركض)!: وإن صدقت إحدى الإحصائيات التي اطلعت عليها في بعض المواقع الالكترونية -وقد تكون غير دقيقة-، فإن ارتفاع نسبة الانتحار في السعودية أصبحت مقلقة. حيث تشير هذه الإحصائية -غير المؤكدة- إلى أن حالات الانتحار عام 2009م بلغت (787) حالة، ولم تفصل هذه الإحصائية بين حالات (الشروع في الانتحار)، وحالات (الانتحار) التي تنتهي بالموت ، فإن حالات الشروع عادة ما تكون الأكثر ، ولكن لا يعلن عنها في الغالب لصعوبة حصرها، والإحصائية السابقة تشير إلى أنه في تلك السنة وصلت الحالات إلى حالتين يوميًّا تقريبًا، وتؤكد إحدى الدراسات أن نسبة المنتحرين من الشباب تبلغ 84% من مجمل المنتحرين، وودت لو سُلط الضوء على مثل هذه الإحصائيات بصورة أكبر وأعمق؛ لخطورة المشكلة وتفاقمها محليًّا. إن غياب الإحصاءات الرسمية الحديثة والدقيقة غير مقنع في نظري، لا سيما مع وجود همس نسمعه من الأطباء وغيرهم عن ارتفاع حالات الانتحار بصورة مخيفة في السنوات الأخيرة، وهذا كله يتطلب وقفة مصارحة مع النفس، فالمشكلات الاجتماعية كالأمراض العضوية لا يمكن علاجها بإخفائها. بعد (انتحار) بوعزيزي تونس أخذت كبيرة (الانتحار) منحى آخر في تحليلات كثير من الناس، وما أخشاه أن هناك (تمجيدًا) للانتحار لكونه احتجاجًا على الأوضاع المعيشية والاجتماعية. إن التمجيد الخفي (للانتحار) بوصفه يرمز (للاحتجاج) على الأوضاع الاقتصادية والفساد وما إلى ذلك، لا يغير شيئًا من حكم الله في هذه (الكبيرة) . وفي رأيي أن ذلك المنطق الرابط بين الثورات العربية والانتحار، هو رابط غير دقيق، فإذا كان (البوعزيزي) فجر ثورة تونس، ففي ظني أن (مغادرة) الرئيس التونسي الدراماتيكية هي التي فجرت الثورات العربية الأخرى؛ لذلك من الخطأ النظر في (المقدمة) الأولى، وهي (انتحار) البوعزيزي، والغفلة عن المقدمة الثانية وهي (الخروج المفاجئ) للرئيس، الذي ألهب مخيلة المحتجين في العالم العربي. الحياة العصرية بإيقاعها السريع تسلبنا طاقة داخلية قوية اسمها (الصبر).. وينتج عن ذلك أن (مناعتنا النفسية) باتت (هشة) أمام صعوبات الحياة..