استفزني الشيخ بن بيه وأنا أشاهد جزءًا من إعادة تسجيلٍ لبرنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة، والذي كان ضيفه سماحة الشيخ العلامة بحق عبد الله بن بيه, تحدّث فيه الشيخ عن هستيرية نظريات البناء التكفيري لدى فكر الغلو والتشدّد، وطرح الشيخ الخلل المنهجي في هذا التسلسل؛ إذ كيف يُبنى تكفير على تكفير؟! ثم تُتّخذ بموجبه قاعدة للقتال الفوضوي، دون الرجوع إلى أصول التكفير الشرعي الذي يُسقط بالأدلة مشروعية التكفير المنحرف، أو يُفصّل في التعامل معه ومع منازل الخلاف. واستطرد بالتمثيل والتأصيل من قول ابن عباس رضي الله عنه في قاعدته - كُفرٌ دون كُفر -.. لعل القرّاء الكرام أن يرصدوه في قناة الجزيرة تيوب. أمّا لماذا استفزني الشيخ ...فلأنني تذكرت مرة أخرى كم نحن نفرّط في تلك القامات العظيمة حتى يُقال: "قد كان بيننا"... ولماذا لا نستثمر هذه الطاقة الفكرية الجبّارة، وهو قد تجاوز السبعين -أطال الله في عمره- وهناك أسئلة عديدة ملحّة لجيل الشباب الإسلامي المعاصر لدى الشيخ الجليل أجوبة مهمة لها، فلم لا يُيسّر الطريق لهم، فيما يُبتلى الشارع الدعوي بمن هم أدعياء على الدين، ويفتئتون على منهجيته المؤسسة لثقافة الشرع الأصيلة ورسالة حضارته, وينزوي أولئك في ثياب الواعظين، وليس هذا معارضة لذلك الوعظ الصادق المتزن، إنما نقصد تلك الجلبة التي تُدفع لدى البعض كوظيفة أو غرض خاص، أو لردع الناس عن مقاصد الشريعة الكبرى من العدل والحقوق وفقه التعامل السلوكي والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنقّل به بيانه الوعظي ليربط طريق الجنة والنجاة من النار بهذا التكامل المقاصدي العظيم, فيما يُتخذ بعض الوعظ المنحرف المعاصر أحياناً تجارةً وتوظيفاً لنفوذ؛ فيُبتلى الناس بمن يخاطبهم باسم الدين، كما يُبتلون بخصوم هذا الإسلام العظيم!! أما التوقف الثاني أمام خطاب الشيخ فاني قد مضت بي الخواطر فيه بين تنوير الشيخ وبين تنوير -اللاعنفيين -، والمقصود نبذ فكرة حق المقاومة المشروع، والتزكية الضمنية للاستعلاء الغربي، فتنوير الشيخ هو من فلسفة التنوير لفهم مقاصد النص فيما الآخرون تنويرهم التنوير لإسقاط قطعيات النص- وبينهما فرق كبير، وفي الغالب أنّ محركهم الأصلي هو هزيمتهم من العنفيين الأصليين (الاستبداد الدولي) ما جعلني اسمّيها -اللا عنف كوميديا الهزيمة – وثقافة الهزيمة هذه تخلط بين قواعد مهمة في البعد الفلسفي والتفريق بين الجوهر والعَرَض.. وهي إحدى الإشكاليات في الوصول إلى قاعدة حوار منضبطة للإجابة على السؤال الكبير: هل يوجد في الإسلام أسس مشروع حضاري وفقه دستوري إسلامي، ونظامٌ للعدالة الراشدة؟ سؤال مشروع غير أنّ مقدمات المناطقة المتفق عليها إنسانياً لا تُطبّق في كثير من الجدل الدائر.. ويستبدل به القفز إلى الواقع المنحرف، ووعاظ الوصاية والاستدلال. بل وحتى مثقفو الهزيمة داخل الانتلجنسيا الإسلامية يردّدون ما يقوله الجوهر العلماني... فكيف تستمع مني الجواب وفي الأصل أنت مختلف معي في ترتيب قواعد الحوار لفهم المنهج التشريعي من جوهره...؟! ثانياً وهو مهم للغاية لست أُسلّم لكَ بما اعتمدته كمعيار.. فما هو التقدم الحضاري... وما هو الحكم الرشيد؟ أين السمو الإنساني بين الروح والآلة؟! لا بد من تقعيد محايد حتى نصل للجواب. وهذه ليست طلاسم ولا تعويماً، لكنني أيضاً لن أُسلّم عقلي لعهد بشري يرفض أن أخضعه لمعايير الإنسانية المطلقة في فهم العدل والأخلاق، ويقول: تعالَ نرجع إلى دستوري أنا لا دستورك...عفواً لم أصوت على دستورك فلماذا تحاكمني إليه؟!!... هنا تبرز مشكلة رئيسة: هل تريد فهمي وحواري أم قررت أن تقضي عليّ؟! إذاً لا جدوى للحوار..!! وهذه الثقافة من خطاب الهزيمة جديدة وقديمة، وقد أضحت تنتشر في الآونة الأخيرة كردة فعل وبديل عن خطاب الوعظ المنحرف أو التقليدي، وليت شعري من يصحح لمن؟