الكويت: السيطرة على حريق محدود اندلع في مصفاة الزور    تأثيرية توقظ الذاكرة    خدمة ضيوف الرحمن شرف لنا    الارشاد الجمعي استثمار وطني    ضبط مواطن لترويجه 25 ألف قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    السعودية تدين توسيع عمليات الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية    "السياحة" تتيح التأشيرة الإلكترونية لحاملي تذاكر كأس الرياضات الإلكترونية    شواطئ حقل.. وجهة عُشّاق السياحة البحرية    رياح مثيرة للأتربة بمكة والمدينة    180 مليار دولار حجم التجارة بين الخليج وأمريكا بعام    طلبة المملكة يحققون 5 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات للناشئين    "الحُداء".. لغة التواصُل بين الإبل وأهلها    الاتحاد الأوروبي يدين سياسة الاستيطان الإسرائيلية    فريق مبادرون التطوعي ينفذ مبادرة "على خطى النبي صلى الله عليه وسلم نفوز بسنة المشي"    رياض محرز يتعرض لحادث مروري    "الثوم" يخفض نسبة الكوليسترول بالدم    "كبدك" تشارك في معرض توعوي للوقاية من أمراض الكبد    في السعودية.. 454 مليار ريال إجمالي الصادرات غير النفطية عام 2023    هل يهيمن اليمين المتطرف على البرلمان الفرنسي ؟    "الأحساء" نائباً لرئيس شبكة المدن المبدعة بمجال الحرف والفنون    أمين الطائف يطلق مبادرة الطائف أمانة    معرض سيئول الدولي للكتاب.. فنون أدائية تثري ليلة العشاء السعودي    السيسي: تنسيق دائم بين مصر وأوروبا للتصدي للتحديات الإقليمية والدولية    مدرب كاريو يُدافع عن دوري روشن السعودي    رئيس بلدية محافظة المذنب يكرم عضو لجنة الاهالي بالمحافظة صالح الزعير    «الداخلية»: ضبط 13,445 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في أسبوع    المالديف: اعتقال وزيرة عملت «سحرا أسود» لرئيس البلاد !    «النيابة»: حماية «المُبلِّغين والشهود» يدخل حيز التنفيذ    "الجوازات" تعلن الجاهزية لاستقبال المعتمرين    "المسكنات" تسبب اضطرابات سلوكية خطيرة    رفض اصطحابها للتسوق.. عراقية ترمي زوجها من سطح المنزل    الموارد البشرية بالقصيم تشارك في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات    مناسك الحج في ظل الاعتراف السيسيولوجي    غوتيريش: العالم يفشل في تحقيق أهداف التنمية    سفارة المملكة في لندن تستضيف جلسة نقاشية لتكريم المرأة السعودية    إطلاق موسم صيف عسير 2024    افتتاح أكثر من خمس مناطق ترفيهية ضمن موسم جدة 2024م    خبير دولي: حجب إثيوبيا المياه عن مصر يرقى لجرائم ضد الإنسانية    بايدن يخاطر بحرب نووية مع روسيا    "ميشيل سلغادو" مدرباً للأخضر تحت 15 عاماً    "العمري" مديراً للإعلام والإتصال ومتحدثاً رسمياً لنادي الخلود    ختام الجولة الثانية لبطولة الديار العربية لمنتخبات غرب آسيا    سباليتي يتوقع أن تتحلى إيطاليا بالهدوء أمام سويسرا في دور 16    ختام بطولة المناطق الأولى للشطرنج فئة الشباب تحت 18 سنة و فئة السيدات كبار    فقدان الجنسية السعودية من امرأة    ضبط مواطنين بمنطقة حائل لترويجهما مواد مخدرة    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة هدى بنت عبدالله الفيصل آل فرحان آل سعود    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة هدى بنت عبدالله الفيصل آل فرحان آل سعود    أمير عسير يُعلن إطلاق موسم الصيف 2024 بشعار "صيّف في عسير.. تراها تهول"    صنع التوازن.. بين الاستثمار الناجح وحماية التنوّع البيولوجي    يسر وطمأنينة    سيدات مكَّة يسجلن أروع القصص في خدمة ضيوف الرحمن    القوامة تعني أن على الرجال خدمة النساء    كيف نطوّر منظومة فكرية جديدة؟    د. الحصيص: التبرع بالكبد يعيد بناء الحياة من جديد    محافظ الطائف يزف 9321 خريجاً في حفل جامعة الطائف للعام 1445ه    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان حاكم الشارقة في وفاة الشيخة نورة بنت سعيد بن حمد القاسمي    وفاة والدة الأمير منصور بن سعود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنة والغابة.. عن الإسلاميين في تركيا

جاء طلب المقالة عندما أنهيت كتابًا عن أتاتورك وبدأت آخر لأحمد داود أوغلو، كان بين الرجلين فارق قريب من القرن بين الشخصيتين والنظريتين، وبين تفسيرين وزمنين وحكومتين، كان الأول يرى أن بلاده شبعت من الإسلام، ومن التصوف والتخلف، ومن الفساد، ومن القرب من عالم المسلمين، وكان عليها أن تتجه إلى الغرب وتُولِي قلوبها وعقولها ولغتها ولباسها وسائر ثقافتها نحوه، إذ كان يرى في الشرق "والإسلام" ثقلا يجب الخلاص منه بكل ما فيه، فحقق بالقوة والحسم والإرهاب ما خطر بباله، حتى إنه شنق المئات لأنهم تباطأوا في لبْس القبعة، وكان صارمًا مستعجلا حتى إن من لم يجد قبعة رجالية ألجأه إلى سرقة دكان للقبعات النسائية ولبسها الرجال.
لم تذهب تركيا بعيدًا بعد سلوك الثورة التغييرية المستوحية للعنف من ثورة فرنسا التي تشرَّب بعض أفكارها الحاكم نفسه، وقد أصبح، بحكم تسلّمه للحكم، فيلسوفًا للثورة، كعساكر العالم الثالث يتحولون بعد القبض على الحكم الأدنى إلى متحدثين بمبادئ الفلسفة العليا، وكذا كان معاصرًا للثورة البلشفية، فصنع صورة للتجربتين في تركيا، والصورة غالبا ما تكون شكلا مستنبتًا ومؤذيًا وغير عميق في المجتمع، كما يشير أوغلو في كتاباته عن الفكرة والسلوك المستنبت الذي يموت عاجلا، وهذه الفكرة ليست بعيدة عن رأي مالك بن نُبي في الفكرة المحلية الميتة والفكرة الأجنبية القاتلة.
بعد مائة عام، صنعت تركيا أو تصنع ثورة أخرى، والفرق أن هذه الثورة هادئة بلا صخب ولا زعيم إله، كما لينين وستالين وأتاتورك، بل فكرة وتجربة مقنعة بهدئها، فيها روح الدين وإنجاز الدنيا، وفيها الروح الذاتية وثمرة تجربة الغرب، وفيها وعي بمصائب الدرب الطويل المرير الذي عاشوه، من نتاج ثورة دامت زمنًا طويلا تكبت الأنفاس ويحميها العساكر أو يتظاهرون بحمايتها بسبب القانون لا بسبب القبول بعد أن ماتت في القلوب، بلا تجديد ولا روح ولا معاصرة، دامت برحمة الخضوع للناتو وللغرب، دامت بحماسة قومية طاغية، ولأسباب أوهمت بأنها إنقاذ وتعويض عن مهانة سقوط إمبراطورية، ودامت بمن ينقلبون على كل من شكك في عقيدة المؤسس، ودامت لأن شرًّا تعرفه خيرٌ من خيرٍ لا تعرفه.
العقيدة الجديدة، فيها مستوى فكري أعلى مما كان للثورة الأولى، وقراءة أفكار هؤلاء تؤكد أنها من نبْت الأرض التركية التي تخصَّبت بالعلمانية الأتاتوركية الفرنسية، وبالحركة الإسلامية المعاصرة، وبنتاج خبرة معاناة ومسايرة الفكرتين المتضادتين، فأنتجوا وسطًا، وتبين الرغبة في الحفر في القديم لمعرفة الجذر السياسي والخلقي والعقدي والعملي، في بحث عن جذور في تركيا وفي المُخيِّلة والروح عن صخور صلبة تنصب عليها أعمدة القصر الجديد، ولن يكون القصر جديدًا إلا برؤية النماذج الحديثة والأساليب والمخترعات والزينات، فيتابع الجديد في العصر وفي الجوار وفي العالم الحي المتحرك وفي المصلحة القائمة يظهر هدف المعاصرة، والوعي الذي لا يشغله الماضي عن اللحظة.
إن ما حدث لم يكن ليبدأ إلا بشجاعة في أن تتبع الخطوة العملية الفكرة البارقة، وأن يتحلى هؤلاء بشجاعة التمرد على الثقافة الذاتية، أي ثورة على النفس وأفكارها، وثورة على الشيخ المؤسس (أربكان) وعلى آرائه، وقد رأى في فعلهم عمالة أو ربما خيانة وهو موقف يمكن فهمه ومتسق مع جهاده وتاريخه وإخلاصه، وهنا يحسن أن نقبل بحق الرأيين أن يوجدا، فالتخوين خطاب المُحافظ والتقدم شعار المُجدِّد، ويبقى المهم هو العمل التنفيذي المفسر فكريًّا قبل وبعد، وليست مجرد الأفكار المؤثرة، فالنجاح لحكومة حاسمة صادقة يحتاج الأمن والمساكن والمعيشة والعدالة والحرية والديمقراطية.
المُجدد يمسك بالزمان باللحظة الحاضرة يسايرها ويسيّرها كما يتوقع أنه يفعل، والمحافظ وفيٌّ للقيم الجميلة التي يصعب بقاؤها، أفكار شاخت بالرغم من أنها قد كانت طيبة جميلة لها وقْع، وللنفس حنين إليها، ولكنها كأحبابنا الكبار الذين لا بد أن يفارقوا لسبب أو لآخر، وهم يحرصون على أن يبقوا أحياء بل أن يشبّوا في الجسوم الجديدة وهيهات.
الخطاب الجديد في بدن جديد، خطاب شباب، وإنه ليصعب أن يكبروا عليه وأن يسايروه، وقد قاربوا الستين، وهو خطاب مخيف، ولكنهم جعلوا من الخوف منه سلامًا وأمانًا يقدمونه على طبق من التنفيذ في العالم، مع أوروبا وأمريكا وأرمينيا وإيران وسوريا، وطبق خدمات رائعة في الداخل، منها أنهم مدّوا من الطرق في خمس سنوات، بعدد ما مدَّته الجمهورية التركية في نحو قرن، وبنوا بيوتًا للناس لا خطابات ولا دعاية بل مساكن حقيقية، ونشروا سياسة تصفير الأزمات، أي الوصول إلى عدم وجود أزمات داخلية ولا خارجية، خطاب مثالي، إن لم يكن مغرقًا في مثاليته، ولكنه سيحمل ويْلاته في بطنه، لأنه جاء من خارج الغابة، ويقول إن هذه ليست غابة بل جنة عاجلة يسكنها الجميع بأمان.
إن هذه الحكومة وفلسفتها شجاعة في بلاد لم تتعود هذه الشجاعة منذ قرن، مرنة في منطقة لم تتعود إلا الصلابة، قاطعة مع الماضي في زمن يذهب للوراء الشرقي أو الوراء الغربي، فيتكئ على الماضي في حروبه ومواجهاته في الغرب وفي بلاد المسلمين، إنها حكومة عملية في منطقة تحب الخيال وبقايا البلاغة.
هذا الذكاء والنشاط يصنعان الخبثاء ويثيران الأحقاد، فلسفة خاسرة في الداخل تبحث عن انتقام، وجوار فاشل وموْتور من النجاح أو الاختلاف، فيستعد لينتقم من النجاح، أو يوقفه أو يحفر في طريقه حفرًا كردية وإسرائيلية وعلمانية وإسلامية ووطنية وإيرانية وأوروبية وعربية وإسرائيلية، إن حيلة التصفير وصناعة جنة فكرة ذكية، ولكنها قد تربي الوحوش في الغابة، ولهذا فقد تضطر غير بعيد إلى أتاتورك جديد يتكئ على الماضي أو على المستقبل، والمواجهة ستعطيه أساس الشرعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.