لم يستطع رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إقناع الاتاتوركيين بحجته لإلغاء الاحتفالات الرسمية بالعيد الثامن والثمانين لقيام الجمهورية، وهي الاحتفالات التي يتجدد فيها الولاء لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية وأفكاره القومية العلمانية التي رسمت ملامح تركيا الحديثه. فالزلزال الذي ضرب مدينة فان شرق تركيا، وراح ضحيته اكثر من 500 شخص وعلى رغم كل ما يحمله من مآسٍ، لا يشكل، كما يؤمن الاتاتوركيون، عائقاً أمام احياء روح الجمهورية التي برأيهم جمعت مختلف الاعراق والمذاهب والايديولوجيات من ميراث الامبراطورية العثمانية وصهرته في قالب اطلق عليه الامة التركية التي رسم شخصيتها وملامحها أتاتورك. واعتبر زعيم حزب الجمهورية الاتاتوركي كمال كيليجدار اوغلو، اكبر احزاب المعارضة، قرار أردوغان دليلاً على عدم فهم روح الجمهورية التي اسسها أتاتورك بينما ذهبت صحيفة «سوزجو» المعارضة الى وصف القرار بالعداء للجمهورية ومفهوم الامة التركية. لكن إلغاء أردوغان مراسم واستعراضات عيد الجمهورية، بقرار مفاجئ، لا يثير غضب الاتاتوركيين فحسب انما يزيدهم يقيناً بأن شمس جمهوريتهم قاربت على الافول وأن شمساً أخرى تستعد للشروق مكانها ليس في نورها ضياء لهم ولا تقيهم حرارتها من البرد. وبالنسبة اليهم بات أردوغان وحزبه ذو الجذور الاسلامية يسيطر على جميع أركان الدولة، يمسح حيث حل آثار وأفكار اتاتورك ويغرس مكانها أفكاره اليمينية المحافظة ورجاله المخلصين ضمن مسيرة تعود فيها تركيا الى جذورها الشرقية في قرى الاناضول تاركة «زيف» ثقافة الحياة الغربية وبرجوازية المدن. فالجمهورية، القائمة على تمجيد افكار اتاتورك حول العلمانية والقومية، التي كان الجيش معنياً بالحفاظ عليها وحمايتها ما عادت قائمة فعلياً. وخلال رحلته سعياً الى العضوية في الاتحاد الاوروبي سحب حزب العدالة والتنمية البساط من تحت أقدام العسكر، وأرسل الى السجن كل من حاول الخروج عن حاكميته. وبعد عمليات جراحية دقيقة استمرت تسع سنوات وصل الى قيادة الاركان جيل جديد من العسكر ممن يؤمن بخضوع الجيش للقيادة المدنية المنتخبة، ولعل في اشارة قائد الاركان الجديد الجنرال نجدت اوزال الى «أن أفكار أتاتورك بطبيعتها قابلة للتطور والتغيير من أجل مواكبة العصر» في برقيته بمناسبة عيد الجمهورية، تأكيد على انتهاء روح الجمود والتقديس لميراث أتاتورك الفكري والعقائدي. والأهم أن رسالة التغيير هذه جاءت من المؤسسة العسكرية التي كانت تعتبر نفسها حامي مبادئ الاتاتوركية الى الابد. ومع اقتناع الغالبية في تركيا أن الحزب الحاكم بات يسيطر على الجيش والقضاء والاعلام وثلثي البرلمان، اعاد تحديد أردوغان، صيف العام المقبل للمصادقة على دستور جديد للبلاد، تعريف الكثير من المفاهيم والمبادئ القديمة ويطاول بالتغيير والتهميش عدداً كبيراً من المواد الاساسية الحالية الخاصة بالعلمانية والقومية، ويثير التساؤلات والقلق لدى الاتاتوركيين خصوصاً واليسار الديموقراطي التركي عموماً بل وحتى القوميين حول شكل الجمهورية التي ستُشرق عليها شمس التاسع والعشرين من تشرين الاول (أكتوبر) العام المقبل.