ليلة العاشر من نوفمبر وجدنا أن هناك خطاباً يدس من تحت باب غرفة الفندق في أسطنبول ، وفيه رجاء من إدارة الفندق ، ان نشاركهم النزول في اللوبي الساعة التاسعة وخمس دقائق صباحا للوقوف لمدة دقيقة حدادا على قائدهم التاريخي أو من سمى نفسه (أبو الأتراك) أتاتورك، وكل تركيا ستنعى قائدها في تلك الدقيقة تماما ، وأصررت بل حرصت على النزول للوبي في الموعد المحدد في اليوم التالي لأن المشهد سيبدو عرضا سياحيا تاريخيا مثيرا بالنسبة لي كزائرة تتأمل من الخارج. وبالفعل في تمام التاسعة وخمس دقائق تماما شلت اسطنبول وتوقف الشارع الذي في حي (بشكتاش )الذي يطل على البسفور قد ترك الناس سياراتهم ونزلوا من السيارات للوقوف حدادا على الذكرى 73 لوفاة أتاتورك . كان من الممكن أن أفسرها هي أحد طقوس المؤسسة العلمانية والطقوس العسكرية التي غرستها في وجدان الشعب عندما كانت تلف بقبضة حديدية على تركيا ، لكن الحزب الإسلامي (العدالة والتنمية ) هو من يمسك زمام تركيا الآن ويرسم توجهاتها وسياستها ؟ سألت مرافقنا التركي المتدين عن رأيه في (أتاتورك) فأنشأ يدبج سطور الحب والزهو والولاء لعسكري شجاع أنقذ تركيا كهوية وكدولة عندما تكالبت عليها الأمم ، لم أكتف بذلك مررت السؤال لزميلة فنانة تشكيلية وأكاديمية تركية ، فقالت أتاتورك تركيا الجديدة . وجزء من هويتها. وكنت أتأمل صوره المنتشرة بالشوارع وآتساءل هل هو ديكتاتور شرقي جديد يحكم وطنه من قبره . أحد المراكز العسكرية على البسفور جدرانها مزدانة بصور أتاتورك ، وهي الثكنة العسكرية التي تقابل قصر(ضولما بهجة) الذي غادره آخر خليفة عثماني منكسا باتجاه المنفى ، بعد ان كان هناك بارجتان بريطانية وفرنسية تشرفان على هذا الخروج. ذكرى وفاة أتاتورك أمضى الأتراك ذلك اليوم يرفعون أعلام تركيا وصور أتاتورك ، والتلفاز يبث برامج حوارية عن هذا الموضوع وأنا أحاول أن أفهم ، هل هذا جزء من سطوة وهيمنة المؤسسة العسكرية على الشعب وتحول الإعلام إلى سيرك من المداحين والقوالين والمتزلفين كما في دول العالم المتخلف ، أم أن الشعب هو بالفعل يجل ويحترم هذا الرجل؟ حتى ولو كان حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يدير الدفة ؟ . ولكنني وسط هذا الغموض والإجابات المواربة ، فتشت في ملفات الذاكرة عن أتاتورك فلم أجد سوى بقايا معلومات منهجية ومدرسية ، كانت تقدم لنا (أتاتورك ) كحليف الشيطان الذي قضى على الخلافة العثمانية . الأخوان المسلمون الذين أسهموا كثيرا في صياغة تلك المناهج المدرسية ، كانوا يفتقدون مرونة الفكر (البرغماتي المكيفللي) لأتاتورك ، وكانوا فقط يرونه المسؤول الأول على تهاوي الخلافة الإسلامية ، وهذا ماسطروه ، وهذا مادونوه في المناهج وبات مسلمة لدى الجميع ، قبل أن نقتحم جدران القسطنطينية بفضول الأسئلة وأدوات معرفية لاتكتفي بالمتاح من الأجوبة . وفي النهاية نصل إلى أن التاريخ ليس حكاية واحدة بحقيقة مطلقة ، وأيضا ليست حكاية المنتصر أو المنقهر ، انها حكاية شعوب وثقافات ولغات ورؤى مختلفة بعضها يتربص بالآخر ، وفي النهاية لنختر منها ما يحترم وعينا ويقنعنا ونسقط البقية .