من بين كل الصحف التي غطت زيارة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى سوريا، أنفردت صحيفة "الأخبار" اللبنانية بعنوان لافت على صفحتها الأولى في اليوم التالي لوصول العاهل السعودي. العنوان الذي اختارته الصحيفة كان هكذا: "سوريا تودع عزلتها". وهو عنوان لافت في بلاغته من حيث أنه اختصر الكثير من رمزية الزيارة وتوقيتها ودلالتها في جملة قصيرة. وهو عنوان لافت أيضاً لأنه لا يترك مجالا للتأويل، بل يوحي بالمعنى الذي ينطوي عليه مباشرة. وهو أن حصول الزيارة بحد بذاته مستقل عن غيره في أهميته ودلالته. الأهمية القصوى للزيارة، حسب عنوان "الأخبار"، أنها إعلان عن انتهاء عزلة سوريا العربية. وقد كانت هذه العزلة مرتبطة بشكل أساسي بالقطيعة التي حصلت لعلاقة سوريا مع الرياض، وتتويج هذه القطيعة برفض العاهل السعودي الذهاب إلى دمشق حتى لحضور القمة العربية هناك أوائل هذا العام. ومن المعروف أن هذه القطيعة بدأت بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير عام 2005. وبالتالي فإن العزلة العربية حول سوريا ظلت كما هي، حسب العنوان، إلى أن قام الملك أخيراً بزيارة عاصمة الأمويين. الأكثر إثارة أن العنوان الذي ينطوي على هذا المعنى يأتي على صدر صحيفة محسوبة على سوريا، وعلى حلفاء سوريا في لبنان. وبما أنه عنوان لموضوع رئيسي للصفحة الأولى، فلابد أنه نوقش في الاجتماع اليومي لهيئة التحرير في الصحيفة وتم اختياره من بين عناوين أخرى رأت الهيئة أنها لا تعبر عن الحدث. والأرجح أن هذا لم يحصل استناداً إلى قراءة تاريخية لما اعترى العلاقة بين الرياضودمشق وحسب، بل استناداً إلى دلالة الزيارة، وأهميتها بالنسبة للشام وفقاً لمصادر سورية أو قريبة من سوريا في بيروت. والحقيقة أن للزيارة على الجانب السوري واللبناني تاريخا ربما يفوق في حجمه ما هو موجود منه على الجانب السعودي. من ذلك أن الاهتمام السوري بالزيارة، وتركيز الجهود على الدفع باتجاه حصولها، بدأ في أعقاب الانتخابات النيابية اللبنانية في شهر يونيو الماضي. جزء من تلك الجهود كان يحصل خلف الكواليس. لكن الجزء الآخر كان يتم عبر الإعلام، وتحديداً الصحف اللبنانية، وخاصة القريبة من سوريا وحلفائها اللبنانيين. الدافع المعلن وراء حرص سورية على حصول الزيارة قناعتها بأنها التزمت بتعهدها لكل من السعوديين والفرنسيين بعدم التدخل في الانتخابات، ومن ثم فهي تنتظر ثمناً، أو أثمانا مقابل ذلك. وهذا ما توحي به التغطية الإعلامية للأجواء السياسية لما بعد الانتخابات، وتداعياتها محلياً وإقليمياً. حيث بدأت تنتشر آنذاك تسريبات لافتة عن قرب زيارة العاهل السعودي إلى سوريا، وخاصة في كل من صحيفتي "السفير" و "الأخبار"، وكلاهما قريبتان من سوريا. في الوقت نفسه كان يتم الربط بين زيارة الملك عبدالله لسوريا، وتولي سعد الحريري لرئاسة الحكومة بعد فوز الأكثرية في الانتخابات. ومن ضمن ما قيل في هذا الشأن أن الحريري قد يزور سوريا حتى قبل تشكيل الحكومة، وأنه سيكون من بين الذين سوف يستقبلون الملك في مطار دمشق. الإيحاء المضمر في مثل هذه الأخبار أن الجانب السعودي كان إما موافقاً، أو يميل إلى الموافقة على هذه الخطوات المقترحة. لكن لا تقول هذه الصحف شيئاً عن الطرف الذي بادر باقتراح فكرة زيارة الملك والحريري لسوريا: هل هو الجانب السعودي، أم السوري؟ والأرجح أن سكوت الصحيفتين عن هذا الجانب من الموضوع مصدره نوع من التمويه كانت تمارسه المصادر التي سربت هذه الأخبار للصحيفتين. وبما أن هذه المصادر سورية، فالصمت هنا يرجح بأن الذي بادر باقتراح فكرة الزيارات هو الجانب السوري، وليس السعودي. وهذا متوقع لأن سوريا هي الأكثر حاجة، والمستفيد الأول من حصول زيارة الملك، وزيارة سعد الحريري. زيارة الملك حصلت، لكن تشكيل الحكومة اللبنانية لازال مُنتظراً، وكذلك زيارة الحريري لدمشق. والقول بأن سوريا ودعت عزلتها، يعبر عن حاجتها لذلك. لماذا سوريا بحاجة إلى الزيارة، وهي المستفيد الأول من انفراج علاقتها مع الرياض؟ الإلحاح السوري المستمر على حصول الزيارة يؤشر في هذا الاتجاه. والسبب أن توتر علاقة سوريا مع أهم قطبين عربيين (السعودية ومصر) يعني أنها تعاني من عزلة عربية. وأبرز المؤشرات على ذلك أنها بقيت الدولة العربية الوحيدة فيما يسمى "جبهة الممانعة". لم تتمكن سوريا حتى الآن من كسب أية دولة عربية إلى هذه الجبهة. ما يعكس التغير الذي أصاب العالم العربي نتيجة للأحداث الكبيرة التي مر بها في العقود الثلاثة الأخيرة، وآخرها سقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي. وقد ساعد هذا التغير، كما يبدو، في كشف أن سوريا، رغم وزنها وأهميتها، لا تملك خيارات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، أو حتى أيديولوجية، يمكن أن تقدمها للدول العربية الأخرى، في هذه المرحلة، وهي مرحلة تتميز بظاهرتي الانقسام والاستقطاب. فأيديولوجيا "البعث" فقدت مصداقيتها مع مر الزمن. والقيادة السورية الشابة لم تراكم بعد من الخبرة والإنجازات ما يقنع الآخرين بأنها تملك بديلا أفضل. والوضع الاقتصادي السوري لا يزال يمر بأصعب الظروف. والدولة التي ترفع شعار المقاومة ترفض الانخراط في مشروع مقاوم، داخل سوريا أو خارجها، ما يفقد الشعار مصداقيته. بناءً على ذلك، ليس ببعيد أن الآخرين اعتبروا أن الهم السوري الأول والأخير، في مثل هذه الظروف، هو هم محلي، يخص النظام الحاكم، وإن كان يتم تقديمه بشعارات غير محلية. وإذا صح ذلك تكون سياسات وإمكانيات سوريا، إلى جانب توتر علاقاتها مع السعودية ومصر، ساهمت في تعميق عزلتها العربية. لكن في إطار الدلالة التي يتضمنها عنوان صحيفة "الأخبار"، هناك ما يخص علاقة سوريا بالسعودية تحديداً، وتبعات القطيعة بينهما على الأولى. السبب الأهم الذي فجر العلاقة بين الطرفين كان اغتيال الحريري. ومن المعروف أن شبهة الاتهام وجهت إلى النظام السوري حينها. وكان تعامل هذا النظام مع حادثة الاغتيال مرتبكاً، ما زاد في اشتباه الآخرين به، خاصة داخل لبنان. استمرار القطيعة بين السعودية وسوريا يتضمن أن السعودية لم تكن مقتنعة أو راضية عن أداء الحكومة السورية في التعاطي مع الحادثة وتداعياتها. وإذا كانت المسؤولية الجنائية في الاغتيال متروكة للمحكمة الدولية، فإن المسؤولية السياسية تقع على عاتق النظام السوري، على اعتبار أن الحادثة حصلت أثناء سيطرته الأمنية والعسكرية على لبنان. وسوريا لم تحقق على هذا المستوى نجاحاً يتناسب مع أهمية الموضوع حتى الآن. وإذا أضفنا إلى ذلك أن اتهام النظام السوري بالضلوع في عملية الاغتيال منتشر في لبنان، وخارج لبنان (بغض النظر عن مصداقية الاتهام من عدمها)، فالمقاطعة السعودية لسوريا في هذه الحالة، تساهم في الإبقاء على غلالة هذا الاتهام تحوم في الأجواء السياسية في المنطقة، وبالتالي تبقي على العزلة السورية. من هنا الأهمية الكبيرة للزيارة التي كانت سوريا تعول عليها، لتبديد تلك الغلالة، ولفتح الطريق أمامهما للخروج من عزلتها العربية. ثم إن زيارة الملك للشام، تمهد الطريق لزيارة سعد الحريري (ابن القتيل) إلى دمشق، وإذا ما تمت هذه الزيارة، وهو المرجح بعد تشكيل الحكومة، يكون تبديد غلالة الاتهام قد اكتمل، وهو ما يشبه صك البراءة الذي تحتاجه سوريا لاستكمال الانفتاح العربي والدولي عليها. زيارة الملك حصلت، لكن لا تزال الحكومة اللبنانية تنتظر التشكيل، ومعها تنتظر زيارة الحريري إلى دمشق. القول بأن سوريا ودعت عزلتها يعبر عن حاجتها إلى ذلك، وهي حاجة مشروعة. لكن لعل هذا القول ينطوي على شيء من الاستعجال. الزيارة مرشحة بالفعل أن تعيد العلاقات السعودية السورية إلى سابق عهدها، وتفتح أُفقاً لإعادة شيء من اللحمة والتنسيق في العلاقات العربية العربية. لكن هذا مرهون بما ستقدمه سوريا في موضوعين مهمين: صيغة علاقتها مع إيران، واستعدادها للتخلي عن استخدام بؤر التوتر الإقليمية كورقة أساسية في سياستها الخارجية. بالنسبة لإيران ليس المطلوب قطع العلاقة معها، أو الابتعاد عنها، بل العودة بهذه العلاقة إلى ما كانت عليه قبل عام 2000. أما فيما يتعلق ببؤر التوتر فيأتي لبنان في المقدمة، لأنه قبل غيره المصدر الأهم في توتر علاقات سوريا مع السعودية وغيرها. وبإمكان دمشق التوفيق بين حاجتها لعلاقة خاصة مع جارها العربي، ومساعدته على استعادة حقه في أن يدير شأنه الداخلي من دون تدخلات خارجية. من دون تحقيق تقدم في هذين الأمرين، يكون من الصعب القول بأن سوريا ودعت عزلتها.