أي دولة في العالم الأول أو الثالث يجري بها ما جرى في مدينة الخبر، لؤلؤة الخليج. تتحرك فيها قواعد المجتمع المدني وصناعة القرار لدراسة الحادثة في ظواهرها وفي مسبباتها، تمهيداً لمعالجتها اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وهذه الآراء هي مساهمة وطنية تدعم الدولة والمجمتع معاً, ودعوني قبل ذلك أحدثكم عن هذه المدينة الجميلة الواعدة الرفيعة في إنسانيتها وحضاريتها، المتعمقة أيضاً في ثوبها الإسلامي خُلقاً ومجتمعاً كمدينة وطنية رائعة وراشدة، ليس لأنّ الخبر مسقط رأسي والحاضرة التاريخية الشمالية للأحساء في المنطقة الشرقية ساحلنا السعودي الجميل طبيعةً وثقافة، والثري ثروة حضارية وليس مادية فقط, لكن لأنّها بالفعل كانت ولا تزال مشروع مدينة تتقدم حضارياً وسلوكياً كواجهة مشرقة لكل الوطن السعودي . الخُبر قديمة تاريخياً في مواقع الساحل الشرقي، لكن تأسيسها المعاصر ارتبط بقدوم دواسر البديّع (إحدى قرى البحرين الرئيسة)، الذين شكلّوا أول تواجد عمراني حديث في الخبر، أُتبع بعدهم ومن خلالهم بإنشاء المدينةالجديدة بعد أن استأذنوا الملك عبد العزيز -رحمه الله- بالانتقال إلى الخُبر والإقامة فيها احتجاجاً على تجاوزات مستشار الانتداب البريطاني في البحرين في نظام الأحوال الشخصية قرابة 1341 للهجرة، فأذن لهم ورحب بهم الملك المؤسس، وقد جمع الله الشمل بين مملكة البحرين والسعودية مجدداً بهم في احتضانهم بعد عقود، فجمعوا بين الفضيلتين للشقيقتين . وكان من الطبيعي أن يكون مشاركوهم من ساكني الخبر من واحة الأحساء بحكم الجوار والانتماء، ولكن سُرعان ما استقطبت الخبر شرائح واسعة من مناطق مملكتنا الحبيبة، امتزجوا حضارياً وثقافياً، وأصبحوا كعقد جميل ينساب اجتماعياً على الساحل الشرقي في لوحة وطنية سعودية جميلة, والخبر المتفوقة حضارياً وعمرانياً هي أيضاً نابضة بالثقافة والوعي والمساجد الممتلئة شيباً وشباناً، وثقافة الوعي الشرعي المتوازن سائدة في فكر هذا المجتمع وانتمائه وعطائه مخيمات ومكتبات أو الأخلاقيات الإسلامية في التعامل، وهذا هو الأهم؛ فجمال النسيج الوطني اجتماعياً معزز بالأخلاق الإسلامية لدى مجتمع المدينة في عمومه، والشاذ لا حكم له، وهي محل تردد وزيارة دائمة لأشقائهم من الأهل في دول الخليج، ومن باقي مناطق المملكة . ولذا فإن صدمة المجتمع الشرقي بما جرى كانت في تلك الروح التي تكررت عودتها بنفس الأخلاقيات، والشماتة من المجاميع المنفذة لأحداث الشغب في ذكرى عزيزة على كل مواطن، وهي ذكرى يومنا الوطني؛ إذ إن احتفالات الذكرى العام الماضي جرى فيها أنموذج خطير مما جرى هذا العام, ولقد كان واضحاً من الاستماع للتجمعات الأولية في الحزام الذهبي، والتي ارتصت فيها صفوف المجاميع الشبابية، وقد صوروا ذلك بأنفسهم، وبثّوه في فضاء النت من أنّ الاتصال والاتفاق على تحديد الموعد والتجمّع واضح، ومن لغة التخاطب، وقد كان بارزاً أن المجموعات الرئيسة وردت من خارج المدينة، وأنها تحمل إرثاً فيه مشاعر غير ودية للحاضرة البحرية . على كل حال بدأت تلك المجاميع تحتشد في شارع الأمير سلمان الرئيسي بالحزام الذهبي بالخبر، ومنه انطلقت إلى واجهة الكورنيش البحرية، مع صخب شديد لأغاني مصاحبة لهذا التحرك والضوضاء، ثم انطلقت تلك الجموع -كما رصدت فيما بعد- وعرضت في حملة عنيفة لتكسير المحلات والواجهات ونهب كل موجوداتها وأموالها النقدية، والأخطر من ذلك التعرض لبعض النساء اللواتي تواجدن في المحلات بمحاولة جذب عباءاتهم، وسرقة شنطهم، والاستيلاء على الجوالات التي في محافظهن، لكن ضحايا هذه الممارسات فضلّوا الانزواء عن المشهد بعد تروّع المجتمع من الحدث المؤلم والاستتار عن تبعاته المقلقة للعائلة !! إنّ التحليل الهادئ ينطلق من منظور المصلحة الوطنية العُليا التي يُفترض أن تكون حقوق الناس وكرامتهم في سدتّها إجمالاً، سواءً كانوا ضحايا أو متهمين، وهي تقتضي قدرًا كبيراً من الصراحة ومداولة الحوار الوطني حولها، وأن نضبط الميزان بين العقوبات المستحقة لمن يُخرّب لمجرد التخريب سواءً كان انتقاماً من حالة غُبن يعيشها بسبب ضيق فرص الوظيفة أو مستوى الدخل أو انحسار فرص التعبير, وحلول معارك فكرية عنيفة في المجتمع تملأ الفراغ الذي ينشأ عن غياب المنهجية الرائدة في ثقافة الفرد الحقوقية والإصلاح للمجتمع والمؤسسة, وقلّة الرصيد من البرامج التنموية التي تفتح فرص التنافس بين أبناء المجتمع لكي يتقدموا إلى ميادين الإنجاز والاغتناء الذاتي الذي يشمل الجميع, في حين تنطلق ثقافة الكراهية التي تبعثها بعض التيارات الفكرية في صراعها ليبرالية أو طائفية، أو تنطلق صور الملء للفراغ لاستدعاء التاريخ والطبقات الاجتماعية والمناطقية، والتحشيد الفوضوي لتسعير شهوات الشباب أخلاقياً لتنفجر في هذه المحطات الآمنة والوادعة، ثُمّ لا يُدرى إلى أين تنتهي إن لم تُعالج . إذاً فإن هذا المسار الرئيس في التقييم مسؤولية القرار المركزي سواء في جهة الاقتصاد أو الفكر أو الاجتماع، وهو دليل عملي على حجم الفجوة التي تشكّلت بين برامج الحوار الوطني الرسمية ومراكزه، وبين ما يحتاجه المجتمع وجيل الشباب من مساحة ومواضيع للحوار والإصلاح، وهي معالجات يجب أن تنطلق من دوائر القرار، ويحتضنها المجتمع، لا أن تتكرر صور أنماط الحوار عن الشكليات والقشور، وتترك لُبّ القضايا الوطنية المعاصرة . ولكن هذا المفهوم الرئيس لا يُسوّغ التجاوز والتغاضي والتهوين من فكرة استهداف الناس في أمنهم وحريتهم الفردية وتسوقهم الموثّقة شرعاً ووطنيةً؛ فالمتهم البريء يُطلق، والمأزوم النفسي يُصحح ويُعاقب بالقدر المطلوب, والمُخطِّط المُحشّد للعامة يتحمل المسؤولية كاملة، على أساس أنّ هذا العمل فوضى وشغب يستهدف المواطن والمقيم، ويظلمه، و فيه تجاوز على صورة المجتمع واستقراره واندماج نسيجه الوطني . التسييس والانتهازية.. وقفات مهمة وعلى الرغم من أنّ أحداث الخبر كانت واضحة المعالم في طبائع ومحركّات الجموع؛ إذ لم يكن للالتزام الديني ولا الفتوى أي دور في صناعة الأحداث, على العكس فإن شريحة الالتزام الديني من المجتمع لم تكن بريئة وحسب، ولكنّها كانت في الصف المواجه لحالة الانحراف والتهييج الشبابي المعتمدة على تثوير الفوضى الأخلاقية لانتهاجها في الخبر، وكل ما يُحيطها لسلوك معاكس لهذه الفوضى، كما هو معلوم بالضرورة، بغض النظر عن الغلو أو التشدد من هنا وهناك, غير أنّ البعض المريض في أيدلوجيته وأزمته مع المجتمع الوطني راح يعزف على لحن يريد فيه توريط الشريحة الملتزمة، وهو ما التقطته قناة العالم الإيرانية الطائفية المعادية لاستقلالنا وعروبتنا ووحدتنا الوطنية، وراحت تُضخّم الأكذوبة، وتصنع لها سيناريوهاً وحواراً . ومما يؤسف له أن قضية الخُبر كشفت عن حجم التلاعب الإعلامي في الأحداث التي تقع، وكيف تُسيّر وتُضخّم ويُصنع منها قضية إذا كانت تستهدف تياراً مخالفاً، وفي المقابل فإن الصمت والمواربة والتشكيك حين يكون الجاني خارج التيار المستهدف, وهو حديث طويل لقضية شائكة في علاقة المجتمع الفكرية، وهي تترك مع الأسف للتصعيد لا للمعالجة والتصحيح . مجمّع الراشد والجذور ومع الاغتباط بالنهضة العمرانية والاقتصادية في الخُبر، إلاّ أنني أسجل هنا حقيقة لابد منها، فإن بعض المجمعات التجارية، وخاصة مجمع الراشد الذي نحترم ملاكه ونثق في رغبتهم بالمساهمة في الضبط الأخلاقي الذي يُحافظ على المنشأة والمجتمع، ولذا فإن حالة التسيب في الدخول الدائم للمجمّع وفتح أبوابه على مدار الدوام لكل مجموعات شبابية مع طمأنينتهم من انعدام فرص المحاسبة أو التعقّب جعل المُجمّع مقصداً على مستوى المملكة والخليج تَنشأ فيه، وتتطور حالات الرحلات الشبابية وتفريغ شحنات الشحن الغرائزي الإعلامية . ولذا فإن هذه المجاميع أصلاً التي جابت مدينة الخبر هي نماذج من تلك المجموعات، ونحن نقول نماذج ولا نتهّم الشباب العُزاب جميعاً، إنّما التي تعتاد الدخول للمجمع لتحقيق سلوكيات خاطئة وخطيرة، دون أي ضبط للشرطة الأخلاقية التي تمنع دخول العزاب، فيعتادون على منعهم من التجمع والاحتشاد وينصرفون, فأصبحت الخُبر ضحيّة دائمة لهذا التسيّب، ولقد سمعت مِراراً من إخواننا في الخليج بأن ما يجدونه في مجمّع الراشد من مخاطر على العائلة أشد مما يجري في بعض دول المنطقة، على الرغم من الفرق في قضية الملابس المحتشمة, ولذا فإننا نناشد القائمين على المجمّع والمجمعات الأخرى بتطبيق نظام سلامة أخلاقي للعائلة, وهو سهل يتركز بمنع دخول مجاميع الشباب العزاب ومتابعة حالات التعدي الحقيقية داخل المجمع، ونحن نقول التعدي الحقيقية وليس متابعة الناس واتهامهم بالشبهات, وإن قضية التوازن في الضبط الأخلاقي والانفتاح الاقتصادي هي مصلحة للجميع، مشاريع ومجتمعاً، ويجب أن تكون مسؤولية للجميع حتى يَسلم المُجتمع أخلاقياً وأمنياً . و المهم في خلاصة مقالنا ونحن نمسح دمعة الحزن عن الخُبر، ونعتذر وخاصة من الأشقاء في الخليج، وكل مقيم عمّا فعله السُفهاء من أي مكان أتت رحالهم, أن نسعى لاستثمار الحادثة في مشاريع وطنية إصلاحية جادّة تعالج الأزمات الشبابية والمجتمعية وطنياً بروح الإصلاح والتنمية الحقوقية، وبلغة الصراحة التي تفسح التعبير لحقوق المواطن وترفيهه الراشد المتجدد، وتُضيّق الخناق على ثقافة الانحطاط السلوكي الغرائزي؛ فحين تُملأ أوعية المجتمع ببرامج التقدم والفرص الاقتصادية والرعاية الإبداعية، مستثمراً ثروته الضخمة المستحقة لشباب الوطن، فأنت تحافظ على ثرواتك المستدامة، لكن حين تحبسها عنهم، ويلتهون بأنفسهم وبالإعلام الفاسد فقد يحرقون أنفسهم ويحرقون الوطن .