على إحدى صفحات "الوطن"، وتحديداً في صفحة الرأي، كتب حبيبنا (كما هو أسلوبه في التلطف) الزميل الودود واللطيف الدكتور عبدالعزيز محمد قاسم مقالاً بداية الأسبوع الفارط (كما هو تعبيره أيضا في وصف تعاقب الأيام ) بعنوان: "التغريبيون يا أمير الاعتدال" يستند فيه على رؤية الأمير خالد الفيصل ل"تأصيل منهجية الاعتدال السعودي" التي أطلقها في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة قبل أشهر عديدة من الآن، وبحسب فهمي للمقال فإن كاتبنا القاسم يدعو فيه إلى تعزيز مفهوم الاعتدال بين تيارات التطرف: الدينية والتغريبية على حد وصفه، وخصص الدعوة لمصطلح التغريب أكثر باعتبار أن التطرف الديني أخذ حقه من الفحص والكتابة وتسليط الضوء، إذ كتب ما نصه: "... أجدها مناسبة لدعوة الإعلام والنخب الثقافية والأكاديميين لتحرير مفهوم التغريب الذي ابتلينا به، وما المقصود منه؟ وما هي أهدافه؟ ومن هي الجهات التي تدعمه؟ ومن هم هؤلاء التغريبيون الذين يريدون منا الانسلاخ عن قيمنا، وتبني قيم الغرب التي بدأت في التغلغل في مجتمعنا..." ومع هذه الدعوة إلى تحرير المصطلح يضيف الدكتور القاسم من وجهة نظره: "أن فكر التطرف والغلو، قد أشبع بحثا وقراءة وتفصيلا في جامعاتنا وصحفنا وإعلامنا ومنتدياتنا الثقافية والأدبية، وما زلنا بالتأكيد بحاجة إلى مزيد من تسليط الضوء عليه، بيد أنني أدعو هنا أن يتوازى ذلك بالتحذير أيضا، وبنفس الضخ الإعلامي المكثف، من خطر التغريب الذي يتعرض له المجتمع..."، وإذ يضع الدكتور عبدالعزيز قاسم كلمة التغريبيين في عنوان مقاله بين علامتي تنصيص، كما فعلنا نحن هنا أيضا في عنوان المقال، فإنما يجنح هنا إلى حيادية الموقف تجاه المصطلح، واستشراف محاولات جديدة إعلامية وثقافية لتحرير المصطلح من خلال إطار مفاهيمي تأصيلي يستبين من خلاله المعنى من إطلاق مثل هذه المصطلحات، الشيء الذي لم يفعله القاسم هنا إلا كونه مصطلحاً يتأطر كونه فكراً مرفوضاً لا غير. وبرأيي أن القاسم يقع هنا في خطأ منهجي وهو الأكاديمي والصحفي والإنسان الواعي الاعتدالي كما يحب أن يكون، إذ أطلق الحكم الرافض للمصطلح من غير أن يستبين إشكالياته المفاهيمية، أو تقديم تحرير اصطلاحي، وكأنها دعوة لتأصيل هذا الرفض أكثر منه دعوة لتحرير المصطلح، أو على الأقل، إطلاق الأحكام بعد طرح كافة الإشكالات الثقافية والمجتمعية لوجود مثل هذا المصطلح. برأيي أن إشكالية مصطلح التغريب فضفاضة جداً بحيث تسمح بدخول أشياء كثيرة وإطلاق أحكام عامة تحت مظلته الواسعة إذ يمكن وصم كل من يتعامل مع الغرب على أنه تغريبي المنهج وهذا ما تستند عليه الكثير من الحركات الإسلامية استناداً على مفهوم الولاء والبراء، أو حتى التفكير التقليدي العادي، وهو تفكير يحظى بقابلية كبيرة ووثوقية مطلقة لدى قطاع عريض من أفراد المجتمع، كونه عقلاً يطرح الآخر بوصفه مصدر الباطل والذات مصدر الحق. ولذلك فإن إضاءة مفهوم التغريب يحتاج إلى تأصيل ثقافي قبل أي تأصيل آخر، هذا إذا سلم المصطلح من إطاره الأيديولوجي أو السجال بين بعض المثقفين وبعض ممثلي الخطاب الديني. ظهر مصطلح التغريب أول ما ظهر في الالتقاء العسكري بين المشرق العربي والغرب الاستعماري أيام حركات التحرر الوطني ضد المستعمر، ومنذ ذلك الحين بقيت لفظة التغريب على حالها السجالي والنضالي بعد ذلك على اختلاف الظروف السياسية، ومع فشل المد القومي فقد ظهر المد الإسلامي ليحل محله في قطاع العالم العربي في نفس الآليات الثقافية والنضالية مع تغير مرجعيات النضال من إطار قومي إلى إطار إسلامي وعلى هذا الأساس أصبحت كلمة التغريب تدور ضمن هذه الأطر. على مستوى السياق المحلي كان لوجود المصطلح أسباب منها ما كان من مشكلة التطرف الديني الذي قاد إلى العنف والدمار وبسبب النقد الجذري لهذا التطرف كان لزاماً من قبل الخطاب الديني الرد بمفهوم مقابل كنوع من السجال الثقافي طيلة السنوات الماضية على اعتبار أن هناك تطرفين هو التطرف والغلو في الدين والتطرف التغريبي دون محددات لهذين المصطلحين حتى الآن. من ناحية مصطلح التغريب فمن الواضح أنه يقصد به الوجهة الغربية في التوجه الفكري لدى من يضعها في سياق المرفوض، لكن، وكما هو معروف، فإن الغرب هو في حقيقته أكثر من غرب: فهو الغرب/ الجغرافيا، وهو الغرب/ السياسة. هو الغرب/ الثقافة. غرب/ العلم. غرب/ الفنون. غرب/ المجتمع. غرب/ الإنسان. غرب/ التحرر. غرب/ القيم الحداثية. غرب/ النظام. غرب/ الفوضى. غرب/ الاقتصاد. غرب/ الحقوق. غرب/ التسامح. غرب/ التعصب أيضاً. باختصار هو غرب التقدم كما أنه غرب الأيديولوجيات المتعصبة، والسياسات المتحاملة. وليس من الطبيعي أن تكون كل هذه المجالات لدى الغرب داخل حقل واحد أو تحت نظرة واحدة. المشكلة أن الغرب ظهر بثوبه السياسي أكثر من ثوبه الثقافي الحضاري، وللأسف فإن بعض السياسات الغربية كرست هذا المفهوم من خلال غزوها لبعض الدول العربية والإسلامية لتحقيق أجندة سياسية واقتصادية محددة الهدف، وعلى ذلك فقد رحلت فكرة الغرب من حقلها الثقافي والحضاري إلى حقلها السياسي، وهنا يجب التفريق بين الغرب كثقافة وحضارة وبين الغرب كسياسة وأجندة سياسية يراد لها أن تطبق بعيداً عن القيم الإنسانية المشتركة، والمشكلة هنا أنه سوف يتم التعامل مع كل المعطى الغربي كفاعل سياسي وليس كفاعل ثقافي حضاري، وعلى هذا الأساس فإن كل من سوف يتعاطى بعض الأفكار المستمدة من العقل الغربي، والتي هي أفكار كونية، وليست مقتصرة على الجانب الغربي، على أنه تغريبي يهدف إلى تحقيق الرؤى السياسية الغربية بطابعها البراغماتي البحت. على هذا المفهوم واتساع دلالاته الفكرية والثقافية والسياسية، فإنه من الصعوبة بمكان إطلاق كلمة التغريب اعتباطياً؛ لأنها تضع الكل في حقل واحد هو الحقل السياسي، ولذلك لابد من تحرير هذا المصطلح من وضعه السياسي لكي نعي دلالة المفهوم جيداً وحتى نستطيع التعامل معه بشكل ثقافي لكي نستطيع الرؤية الواضحة تجاهه أو تجاه غيره من المصطلحات الأخرى.