وقتما طالعت خبر توقيع سمو الأمير خالد الفيصل عقد إنشاء كرسي علمي بجامعة الملك عبدالعزيز لتأصيل منهج الاعتدال السعودي، تداعت إلى ذاكرتي ندوة قبل أربع سنوات، حينما شرفت بأن أكون والزميل الكبير قينان الغامدي معلقين رئيسيين في ندوة أبها (كيف نحب الوطن؟ عام 1426) وكان المحاضر الرئيسي إذ ذاك الدكتور محمد الرشيد وزير التربية الأسبق. أتذكر حينها، وأنا ألتقي لأول مرة أمير الاعتدال، وقد ورث هيئة وهيبة والده وصرامته وجلّ صفاته، أنني اهتبلت فرصة المناخ الحرّ الذي توافر في تلك الندوة، وصدحت برأي كان مخالفا للأجواء الإعلامية السائدة التي ركزت على أجندة بعض فصائل التيار الديني المغالية والتي لا ترى الوطنية، وقلت نصا بأن ولاة أمر هذا الوطن عرفوا أن قَدَرَ الدولة هو أن تكون رائدة وقائدة العالم العربي والإسلامي، فالجغرافيا أملت عليهما ذلك عبر احتضاننا لمهد الرسالة وأرض الحرمين الشريفين، والتاريخُ حاضرٌ في الموضوع منذ التحالف الشهير بين الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب، والذي أُقيم منه وطنٌ على الإسلام وجُعل ركنا أصيلا لا يحمل غير لوائه. وأضفت أن بعض الكتابات الإعلامية الانعزالية التي نشهدها في راهن الآن وتدعونا للقطرية وإعادة النظر بما نقرأ في الصحف هي تضرب في عمق هذا الحلف علموا أم لم يعلموا. وأضفت، وأنا أتحدث لأول مرة أمام هذا الأمير المثقف وجمهرة كتاب وإعلاميين، أن وطننا هو وطن الوسطية والاعتدال، وبمثل ما كان الغلاةُ والخوارجُ والمتطرفون من الفئة الضالة أذىً على الوطن فإنني أشير بكثير من الحدب والإشفاق على دعوة تعزيز الوطنية من هذه الفئة المتطرفة الأخرى التي أخشى أن تدعو لتصنيم الوطنية على حساب منهجِ ورسالةِ هذه الدولة، والغلاةُ هم آفة كلِ فكرٍ وسطي ودعوة عاقلة. وتتذكرون ما فعله غلاة القوميين العرب عندما اختطفوا الفكر القومي وقال شاعرهم الشهير وقتها: هبوا لي دينا يجعل العرب ملة وسيروا بجثماني على دين بُرهم سلامٌ على كفر يوحد بيننا وأهلا وسهلا بعده بجهنم لتنقلب بعدها القومية إلى فكرة تضاد الإسلام.أ.ه سمو الأمير خالد الفيصل عرف يقينا، أن الغلو- أياً كان انتماؤه - لن يُدحر إلا بمنهج الاعتدال، لذلك بادر بإنشاء هذا الكرسي الذي من أظهر أهدافه تعزيز الانتماء الوطني بروح الاعتدال السعودي المستوحى من صميم روح الإسلام، ورفع وعي وثقافة المجتمع تجاه الأفكار الضالة بكيانه واستقراره كالتطرف والغلو والتغريب. وبالطبع لن يفوت أبدا على أي متابع للسجالات الفكرية التي اخترمت أجواءنا الثقافية طيلة السبع سنوات الفارطات، توازن رؤية سموه بين فكري التطرف والتغريب، وتأكيده اللافت مؤخرا وغير ما مرّة على المفهومين وخطرهما، وأجدها مناسبة لدعوة الإعلام والنخب الثقافية والأكاديميين لتحرير مفهوم التغريب الذي ابتلينا به، وما المقصود منه؟ وما هي أهدافه؟ ومن هي الجهات التي تدعمه؟ ومن هم هؤلاء التغريبيون الذين يريدون منا الانسلاخ عن قيمنا، وتبني قيم الغرب التي بدأت في التغلغل في مجتمعنا، ولولا ذلك لما أشار أمير الاعتدال إليه، وقد انتبه إلى خطره العظيم على الوطن، من موقعه كمسؤول تمرّ عليه عشرات القضايا يوميا، ويطلع على مسبباتها. من وجهة نظري أن فكر التطرف والغلو، قد أشبع بحثا وقراءة وتفصيلا في جامعاتنا وصحفنا وإعلامنا ومنتدياتنا الثقافية والأدبية، وما زلنا بالتأكيد بحاجة إلى مزيد تسليط الضوء عليه، بيد أنني أدعو هنا أن يتوازى ذلك بالتحذير أيضا، وبنفس الضخ الإعلامي المكثف، من خطر التغريب الذي يتعرض له المجتمع، والذي تمطرنا به هاته الفضائيات التي تحمل منهجه، فضلا عن دعاتها ممن التاثوا بفكر التغريب، وهم يضخون نفاياتهم في عقول أجيالنا. ولربما نستحضر هنا ما قامت به بعض الفضائيات العربية مؤخرا من عرض حالات شاذة من مجتمعنا، وإشهارها إعلاميا بل وصناعتها وفبركتها لتتلاءم مع مخططاتها التغريبية في إفساد ناشئتنا وفتياتنا اللاتي ربين على العفاف والحشمة. شكرا أمير الاعتدال، وتاريخنا الفكري سجّل لك حملاتك الكبرى على مستوى الوطن لتصحيح مفاهيم وأخطاء توورثت عبر السنين، فنفضت عنها الغبار وأبنت عوارها. فليتك أبا بندر - وأنت أمير مكةالمكرمة - تتبنى أيضا تبيان خطر التغريب على وطننا، وعلى عقيدته وقيمه المنطلقة من منهج هذا الاعتدال.فرجل بثقافتك وثقلك ومكانتك وحزمك وعزيمتك التي يشهد بها تاريخك سيفعل بالتأكيد الكثير، لدرء هذا الوباء الفكري عن وطننا المضيء بنور الرسالة والاعتدال.