عجيب أمرنا لا نأتي إلاّ بعد الفاجعة أو الحوادث، فيذهب هذا التصرف الكثير من المسرات التي كنا نأملها، بسبب تأخّرنا عن المجيء في الوقت المناسب. نكيل المديح والإطراء والنحيب، ونذرف الدموع على من رحلوا عنا، والعجيب أننا لم نفطن لهم إلاّ بعدما يهزنا خبر موتهم، عندما يأتي عبر رسالة جوال على حين غفلة، يرسلها أحدهم إلى عدد كبير من الأسماء المخزنة في جواله، دون النظر في الاستعدادات النفسية لمتلقي الخبر، وهنا يكمن العطب، فقد نسبب لأحدهم صدمة نفسية قوية بسبب تلقي الخبر بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار. لماذا لا نذكر نجومنا إلاّ بعد فراقهم، ثم نذرف عليهم الدموع لحظات وينتهي كل شيء؟ أليس لهؤلاء حق علينا أن نشعرهم بحبنا وتقديرنا لهم جرّاء ما قدموا لدينهم وأمتهم ووطنهم وهم أحياء يُرزقون بيننا..؟ هناك الكثير منهم الآن أحياء يُرزقون، وقد قدموا الكثير، والذي يستحقون به أن يُكرموا؛ لأنهم بعد موتهم سيجدون التكريم الرباني منه سبحانه وتعالى. ما سبب هذه المقدمة؟ بعدما فُجعنا بفراق الشاب الذي جمع ألوان الطيف في كفه؛ حيث أجمع الكثير والكثير على حبه وتقديره، والدليل تلك الجموع الهائلة التي انهمرت عبر شوارع بريدة متجهة في لهيب الحر إلى الصلاة عليه وتشييعه ووضعه في لحده، ما دليل هذا؟ فلا أحد أُجبر على الخروج!! هذه عادتنا لا نذكر إلاّ بعد ما نفقد. وأنا سأدلي بدلوي في سكب العبرات مثلي مثل غيري على فراق هذا الشاب المبتسم؛ لأني ما رأيته في أي مناسبة إلاّ وهو متفائل ومبتسم. حديثي عنه سيكون مختلفاً؛ فالمديح والإطراء والثناء قد بلل قبره من محبيه، وهو ليس بحاجته، بل بحاجة إلى الدعاء، ولكن سآتي من جهة أخرى، حيث سأطرح سؤالاً: ما الذي جعل الناس بهذا التنوع يتفقون على الخروج مع جنازته؟ قضية الأجر متفق عليها، ولكن في كل يوم يُشيّع أناس، ولم نر هؤلاء خرجوا؟ إذاً هناك سرٌ بين جوانح فقيدنا جمعهم وجعلهم يخرجون، فماهو ياترى..؟ في الأيام القليلة الماضية تتبعت بعض ما كتب عنه -رحمه الله- فوجدت أن كثيراً من الذين كتبوا عنه اتفقوا على وجود خصال نادرة جمعت له هذا الحب، وهي حسن الخلق، وبذل الجاه، والصبر. لاحظ هنا هذه الخصال لا يجيدها السواد الأعظم من الناس، والسبب أن فيهما مقوم الصبر، والصبر لا يجيده إلاّ القليل من ذوي الأعصاب الفولاذية؛ فالناس بطبعهم لا يرون إلاّ أنفسهم، ولا يهمهم إلاّ قضاء حوائجهم فقط، لذلك تجدهم عند طلبها ينسون أمر القيم أو الإنصاف أو الإيثار، فمن هو الذي يتحمل ذلك؟ أبو أنس كان من هذا النوع، قضاء حوائج الناس جبلة فطرية به، تجدها عنده معروضة بالمجان، ولا يبتغي لها ثمناً؛ لأنه قد أودع حساب هذه الخصلة في بنك الذاخرة، حيث يأمل أن تكون عوائد هذه الخصلة تُقيّد في أرصدة الآخرة، فتخطى الأذى الذي يأتي من هذه الخصلة، فسبح في نهر الصبر عليها، وصبر على البلوى التي أصابته في جسده، فلم يُعرف عنه التشكي أو التسخط حتى أتاه اليقين من ربه. (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ). والأخرى وهي حسن الخلق، فلو تأملت في مقال الناس هذه الأيام لوجدت أنهم يتحدثون عنه، وكأن كل واحد هو صديقه الأوحد، وهو قد رآه في مناسبة أو راجعه في عمله، إذاً لماذا أحبه كل من تعامل معه، بينما الكثير غيره في نفس المكان..؟ ورد في السنة أن أقرب الناس منزلة يوم القيامة من نبينا صلى الله عليه وسلم، من يتصف بهذه الصفة، وأظن أن أبا أنس قد تاقت نفسه إلى هذه المنزلة، فجسد حسن الخلق واقعاً في حياته طمعاً فيما سيجده عند ربه. إذاً ما هو دورنا نحن من هذه الصفات: البذل، وحسن الخلق، والصبر..؟ كثيرة هي المشاحنات والبغضاء التي دبّت في مجتمعنا بسبب فقد هذه الخصال: حسن الخلق، والصبر، والبذل، وإن شئت دليلاً فتأمّل، ولن أخرج بك عن دائرة الحديث عن أبي أنس. يوم الخميس الذي صُلّي فيه عليه ودُفن فيه، رحمه الله، اسرح بطرفك متأملاً الجموع العظيمة من الناس التي اجتمعت في المسجد، كيف وصلت إلى المسجد؟ تعطيك إشارة لما فقده البعض منا من هذه الخصلات. خرج كثير منهم من منزله مع أذان العصر أو قبله أو بعده، وهو يترحّم على أبي أنس. الطريق إلى المسجد بعيد عن بيته، وهي غير سالكة، كل همّه أن يصل إلى المسجد قبل أن تُقام صلاة العصر، والهم الأكبر أن يلحق صلاة الجنازة، هذا بالتالي جعله يتصرف من خلال هكذا تصرفات بعيدة جداً عن حسن الخلق والصبر، فأول العلامات على (فلتان) الأعصاب عندما تعترضه إشارة مرور، حين تضيء، فيا ويل من يكون أمامه من صوت المنبه، حتى ولو كان أمامه خمسون سيارة، المهم أن يتنفس من شدة الضيق من خلال هذا المنبه، كأنه سيفتح له الطريق. وصل صاحبنا المتأخر والصلاة قد أُقيمت، لم يجد مكاناً لسيارته، تختلط عليه الأمور، أُقيمت الصلاة، ويخشى أن تفوته الصلاة، وبالتالي تفوته صلاة الجنازة، فينسى نفسه، فيقف بسيارته كيفما اتفق دون تأمل ماذا ستسببه بعد ذلك، في اعتقاده أنه سيؤدي عبادة، فعليه أن يقدمها على كل شيء غيرها، بعد الصلاة يخرج مسرعاً يتبع الجنازة، يسأل له الرحمة والغفران، فيغوص وسط الجموع الهائلة التي حضرت لنفس الغرض، ونسي أين أو كيف أوقف سيارته. تأمل أنت حال المكان، وما نسببه من حرج وضيق لكثير من المصلين عندما نغلق عليهم الطريق، فكيف هي نفسياتهم بعد ذلك، والواحد ينتظر الوقت الطويل ليخرج سيارته التي سجنتها سيارة أخرى، وصاحبها قد تلبس في نافلة، ونسي ما سببه لغيره من أذى قد نهي عنه؟! المساحة المحيطة بالمسجد تتحمل جزءاً من المسؤولية، فكثيرمن الجنائز يكون المشيعون لها كثيرين جداً؛ فيغص المكان، ويحدث نفس السيناريو لكن بشكل أخف، فماهو الحل؟ من الممكن أن يُستفاد من المساحة الشرقية للمقبرة والتي تقف فيها السيارات داخل المقبرة؛ فلو أن الأمانة تجهزها كمواقف بشكل مؤقت حتى يأتي وقتها، هذا سيحل جزءاً كبيراً من المشكلة الناتجة عن الوقوف العشوائي، وأملنا في الأمانة أن تستجيب لهذا الاقتراح. هذه لمحات جالت بخاطري وأنا أتأمل هذه الحدث، وأقول سبحان الله، بعض الناس مؤثر حياً وميتاً، فكل هذا سبّبته لنا بعد رحيلك أبا أنس، وقد نعتب عليك حيث كشفت بعضاً من سلبياتنا وأخطائنا وعيوبنا. فلله درك حياً وميتاً، وجعل الفردوس مثواك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ووالدينا والمسلمين عامة يارب العالمين..